أئمة القمامة بالأنترنت (1)
إلياس بلكا
انفجرت في العقد الأخير ظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي، فكثـُرتْ وكثر عددها وتنوعت صورها، وأصبح يرتادها ما يقدر بـ 130 مليون مواطن في العالم العربي.
ظروف ظهور الأئمة الجُدد
مع الوقت برزت ظاهرة بعض الشباب الذي يزعم أنه يريد إصلاح الأوضاع في العالم الإسلامي، فبدأ يثير أسئلة ويطرح إشكالات، وهو في الغالب ينقلها عن غيره، وبدأ يتجمّع حول هؤلاء ما يسمى في لغة التواصل بالأنترنت: أصدقاء. وهؤلاء يضعون علامة «لايك» على المنشور الذي يعجبهم، وهو في الغالب فقرة من بضعة أسطر. وتعني بالعربية: أعجبني، ثم أصبحت هذه الإعجابات مهمة، فكأنها العُملة النقدية لمواقع التواصل، لذلك كلما كثرت أحسّ صاحب الحساب من هذا الشباب «المجتهد» بالرضى والفرح، فيزيده ذلك اجتهادا وحرصا على تطعيم الأصدقاء بمزيد من الأسئلة والإشكالات.
ولما كان موضوع الإسلام هو موضوع الساعة في العقود الأخيرة، خاصة في العالم العربي-الإسلامي، فقد اتجه هؤلاء الشباب إلى هذا الموضوع بالذات لأنه يثير الانتباه ويصنع الجدل، إلى جوار أسباب أخرى طبعا.
«آمن» هؤلاء الشباب (وضعتُ «آمن» بين مزدوجتين لأنني لم أعد أعرف بما يؤمنون، وإن كنت على يقين كما سأشرح ذلك لاحقا بأنهم يؤمنون بشيء واحد ثابت، وهو: نفوسهم). قلتُ: «آمن» هؤلاء الشباب بأن إصلاح أحوال الأمة يبدأ بإصلاح أو تغيير الدين، فانطلقوا يبحثون في هذا الدين عن «مكامِن الضعف ومواطن الداء» أو في فُهوم الأمة للدين، فاهتدوا إلى أنها كثيرة، بل هي في واقع الأمر تتعلق بكل ما له علاقة بالإسلام وبالمسلمين. وأبرز ذلك ما يلي:
• النص المُؤسِّس للدين: أي القرآن والسنّة. اتجه «النقد» بداية إلى الحديث النبوي، لأن الإسلام من دون حديث يتحوّل إلى مجموعة قيم ومبادئ عامة يمكن إفراغها من مضمونها بسهولة، إذ إن العدد الأكبر من مسائل الاعتقاد والسلوك الفردي والاجتماعي، ترجع إلى الحديث، فإذا أسقطته سهُل عليك إنكار عذاب القبر وخروج الدجال ونزول المسيح مثلا، وفي الحياة اليومية تخِفّ التكاليف جدا بإسقاط الحديث، وتتقلّـص دائرة الواجب والحرام ، إلى أبعد حدّ.
ولمّا كان الراوي الأول للأحاديث هو الصحابي الفاضل أبو هريرة، فقد وقع الهجوم عليه أوّلا، فظهرت كتب ومقالات ومناشير في عالميْ الورق والأنترنت، تحاول إقناع الناس بأن أبا هريرة شخصية غير جديرة بالثقة، ثم شيئا فشيئا انتقل الهجوم إلى سلسلة الرواة بأكملها، فقالوا: ليس من الضروري أن نستمع للرواية، ومن حقنا أن نأخذ ما نشاء من الرواية ونرفض ما نشاء، والمعيار في ذلك هو العقل، وربما قال من يريد الإبقاء على شعرة معاوية مع الإسلام: المعيار هو عدم مخالفة القرآن. ثم هو يعطي لنفسه الحرية التامة في أن يُحدد ما يتفق مع القرآن وما لا يتفق.
كذلك لما كان أصحّ كتاب في السنة النبوية هو الجامع الصحيح للإمام أبي عبد الله البخاري، فقد وقع هجوم مُركّز عليه، بدأ بحكاية أنه ليس كل ما في كتاب البخاري صحيح، ثم انتقل إلى أن الكثير ممّا في البخاري غير صحيح لمخالفته بزعمهم للقرآن أو للعلوم أو للعقل، ثم انتقل الهجوم إلى فكرة أخرى وهي أن أكثر ما في كتاب البخاري غير صحيح، وأن تمييز الصحيح من غيره يكون وفق طريقة أخرى غير طريقة المُحدثين، أي وفق العقل وما يرتضيه.
2- العلوم الشرعية: اعتبر هؤلاء الشباب أن هذه العلوم علوم بشرية، وأن من حقهم أن يأخذوا منها ما يشاؤون ويتركوا ما يشاؤون. ثم ظهر لبعضهم أنه من الواجب تجاوز هذه العلوم، فهاجموا خصوصا الفقه الإسلامي، وكان الغرض هو إزالة احترام الناس للفقه وللفقهاء. كما هاجموا كثيرا من تفاصيل العقائد الإسلامية واستهجنوها.
3- تاريخ الأمة: وهذا من أهم المجالات التي امتد إليها «اجتهاد» أئمة الفايسبوك والتويتر. بدأ ذلك بالتشكيك في بعض الأحداث التاريخية، ثم بإبراز بعض النقاط السوداء في تاريخنا، وانتهى أخيرا بالحكم على هذا التاريخ بأنه مُزور لا ثِقة به، وبأن المؤرخين المسلمين كذبوا علينا، وبأن تاريخ الأمة عبارة عن حروب وسفك دماء وجواري، وانتهى الأمر.
أين المشكلة مع الأئمة الجدد؟
والآن ما هو اعتراضنا على هذا الموضوع؟ لست أعترض على الشباب الذي يريد أن يجتهد فيشخص الأمراض ويصف الأدوية ويفكر في المشكلات ويبتكر الحلول، على العكس من ذلك، هذا ما ينادي به الجميع منذ بدأت النهضة العربية-الإسلامية في منتصف القرن التاسع عشر، وأنا شخصيا كتبتُ هذه السنة في «سلسلة الأسئلة المشكلة في تراثنا الإسلامي» عن حوالي أربعين قضية بحاجة للبحث. وكتبتُ السنة الماضية في «سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية» عن أكثر من خمسين قضية دعوت الشباب لدراستها وحلّ مشكلاتها.
إنما نعترض على جملة أمور، أهمها أمران:
الأول- مدى الأهليّة العلمية لمن يريد أن يخوض في العلوم الإسلامية خصوصا، وفي العلم عموما.
الثاني- المنهج العام الذي يسير عليه هؤلاء الشباب.
سأبدأ بشرح الاعتراض الثاني حتى يتضح للقارئ الكريم ماذا أقصد بعنوان المقالة، على أن أشرح الاعتراض الأول في الحلقات القادمة بإذن الله، وملخصه، أعني الاعتراض الأول: الضحالة العلمية لأغلب هؤلاء الشباب، أي أن تكوينهم العلمي المعرفي ضعيف لا يؤهلهم للكلام الكبير وفي القضايا الكبيرة.
جمع النفايات: ملخص منهج أئمة القمامة
إذن لا حرج في الاجتهاد وإعمال العقل. لكن الذي يفعله أغلب هؤلاء الشباب في الأنترنت، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة الفايسبوك، هو أنهم يجمعون من تراثنا العربي-الإسلامي كلّ شيء يظهر لهم أنه سلبي فينشرونه ويجعلونه مادة للسخرية من الدين، أو على الأقل الدين كما فهمته الأجيال المتتابعة من العلماء من أربعة عشر قرنا، أو للسخرية من الأمة وتاريخها وحاضرها. فهم ينتقُـون أحداثا أو أقوالا معيّنة، ويقدمونها بطريقة هدّامة، وبإصرار واستمرار:
• إما من الحديث النبوي أو آثار عن الصحابة، وبعض ذلك سنده صحيح وبعضه سنده واه أو حتى موضوع.
• إما من التاريخ، كالتركيز على حادثة تاريخية، ولتكن مثلا خطأ وقع فيه أحد الفاتحين أو الحُكام أو العلماء،. فيصوّرون تاريخ الأمة كله بهذا الشكل.
• إما من الحاضر بإبراز كل نقص في حياة المسلمين وتجاهل كل إنجاز إيجابي لهم.
بعض هذه الأمور التي يذكرونها صحيحة مطلقا، وبعضها صحيح لكن يجب وضعها في سياقها الخاص بها، وبعضها غير صحيح بتاتا، لكنهم لجهلهم وتسرّعهم وحِرصهم على مفاجأة جمهورهم، يَروْنها كذلك.
بالمختصر تحوّل هؤلاء الشباب إلى آلات لجمع النفايات، سواء منها النفايات الحقيقية أم الوَهمية، فهم كآلات سكانير لا تلتقط إلاّ ما هو سيّء أو يظهر لهم أنه سيء.
لكن يوجد فرق بين جامِعي القمامة في المدن وبين هؤلاء، فجامعو النفايات أفضل منهم بكثير لأنهم يجمعونها من الناس ويلقونها بعيدا عنهم فيساهمون في نظافة حياتنا وأحيائنا، فلهم كل التحيّة والاحترام. أما أصحابنا فيجمعون النفايات ويحرصون على نشرها بين الناس وإلقائها في وجوههم.
لذلك سميتهم: أئمة القمامة، أو مجتهدي القمامة.
بحول الله تعالى في الحلقة القادمة سأقدم نماذج لهذه النفايات ولطريقتهم في نشرها بوسائل التواصل الاجتماعي، وسأشرح خطورة هذه الظاهرة وكيف أن أغلب أهل العلم والفكر والثقافة لا يعرفونها، وإذا صادفوها في الشبكة العنكبوتية لم يعطوها ما تستحقه من اهتمام، بل ربما استهانوا بها، رغم أن معظم النار من مستصغر الشّرر.
وأرجو أن يصبر القارئ على هذا الموضوع، فهو أعقد ممّا يظنه الكثيرون.