آدم وجنته
كان آدم وحواء في (كوكب آخر) عامر بالأنهار والفواكه والسلام، ثم حصلت الكارثة، بأن غضب الله على آدم، الذي كانت المرأة زوجته خلف الكارثة، بأكل التفاحة التي أتت بها الحية الملعونة، من خلال ضحك الشيطان على آدم؛ فكانت النتيجة أن آدم نزل ـ لا ندري ـ بباراشوت أو أرسل بصاروخ مع جماعة الستار تريك إلى كوكب آخر مليء بالمعاناة والاقتتال، هو الأرض.
(اهبطوا) يفهمها الكثير أنها الانتقال هبوطا من كوكب إلى كوكب. ثم ما معنى تحريم شجرة واحدة من فواكه الجنة على آدم، لا تقربا هذه الشجرة.
هذه الرواية التقليدية الدينية، ولكن الأرض تروي عن رحلة الإنسان شيئا مختلفا.
ولكن يجب علينا أولا أن نرى الرواية التقليدية في ضوء الرؤية الأنثروبولوجية، بمعنى استخدام (الأدوات المعرفية المساعدة) لفك النص الديني.
مما يروي أيضا أصحاب النص التقليدي الديني أن آدم كان طوله ثلاثون مترا اعتمادا على حديث في هذا. والأبحاث الأنثروبولوجية تقول أن بدايات الإنسان كانت من شرق أفريقيا، وأن ثمة أحد عشر نوعا ـ إن لم يكن أكثرـ دبت على وجه الأرض، كانت صغيرة القامة أصغر حجما في الجمجمة، وأن الإنسان الأخير (العاقل العاقل) أو ما يسمى (هومو سابينز سابينز) ظهر قبل 200 ألف عام تقريبا.
كم عمر الأرض؟ من كان آدم؟ متى عاش؟ أين عاش؟ كيف كانت الحياة والعمران في زمنه؟ بل كل الوجود هل له عمر؟ نفس هذا الكلام ينطبق أيضا على أنبياء آخرين، وعلاقتهم بالتاريخ والكتابة. نوح مثلا متى عاش وهل يمكن لإنسان أن يعمر ألف سنة؟ ثم طبيعة الطوفان الذي غمر الأرض إذ يجب أن يكون من الشواهد العلمية ما يشير إلى ذلك. كيف أمكن لنوح وضع كل مخلوقات الأرض من كل صنف زوجين من الطيور والسنوريات والدواب، في سفينة طولها ثلاثون مترا؟ هل يمكن أن تتسع لكل هذه الحيوانات ولو كانت غواصة نيتولوس؟ ثم لماذا حصل الطوفان؟ وأين؟ وهل أراد الله تطهير الأرض من الجنس البشري كله؟ كيف نفهم التسلسل التاريخي بين آدم ونوح وإبراهيم؟ وانتهاء برسول الرحمة (ص)؟ لماذا تأخرت بعثة النبي (ص) ستة قرون عن اختفاء المسيح؟ أو حسب الرواية الكنسية أنه أنهى حياته على المصلبة؟
لماذا أصر القرآن على نجاة المسيح من القتل؟ وهو القائل أن كل أمة همت برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب.
كما أن القرآن أشار بشكل واضح إلى قتلهم الأنبياء بغير حق؟ فهل يكون عيسى بن مريم المسيح استثناء من هذا؟ ما جعل الفيلسوف الإيطالي (جيوردانو برونو) يدفع حياته حرقا على قيد الحياة في مطلع القرن السابع عشر من أجل هذه الفكرة، أن المسيح الذي فدى نفسه عن الكرة الأرضية وسكانها، وهي ليست في الملكوت أكثر من ذرة تافهة.
لماذا كان الرسل والأنبياء درجات فضل بعضهم على بعض؟ كيف نفهم أن نبيا مرسلا مثل موسى يذهب إلى مجمع البحرين، ليتعلم من رجل صالح آتيناه من لدنا علما. أين النبوة والرسالة إذن؟ وما هو العلم اللدني؟ كيف نفهم المعجزة في التاريخ؟ ولماذا لا تتكرر على الشكل القديم؟ بل لماذا أصر القرآن في عشرات الآيات، أنه ليس في طريقه لتكرار هذه الأسطوانة القديمة، من تفجير الينابيع وإقامة الأموات وشق الجبال مع القصور والكنوز والجنات والملائكة على شكل حرس مرافق يشهد له بالنبوة؟
ثم كيف نفهم حديث الهدهد والنملة وكل منهما لا يحمل في دماغه من النورونات إلا التصرف بكوابح الغريزة ومقتضيات البقاء ليتحول الهدهد إلى فيلسوف ناطق والنملة إلى حكيمة للنجاة؟
هذه الأسئلة ضرورية، من أجل بناء العقلانية الدينية، وتحرير الضمير من سلاسل الفكر التقليدي الكابح، أو سخريات أدعياء الحداثة وما بعد الحداثة؟ فكيف نفهم النبوات في التاريخ؟ ولعل قصة آدم هي أول الحلقة في السلسلة؟ فما هي رحلة الإنسان التطورية؟ وكيف نفهم ظهور الإنسان الثقافي؟ ثم هل نحن في بداية التاريخ أم نهايته؟
في الواقع لم يهبط آدم من كوكب إلى كوكب، وكلمة اهبطوا لا تعني الانتقال والنزول من كوكب لآخر، وفي القرآن وفي موضعين كلمة اهبطوا تعني الانتقال في المكان كما في بني إسرائيل لما طلبوا من موسى في الصحراء أن يستبدل لهم طعام المن والسلوى الصحي الممتلئ بالكالوري، فطلبوا البصل والثوم والفقوس والخيار والعدس. فقال لهم اهبطوا مصرا بمعنى تفضلوا وارتحلوا إليها.
إذا ضبطنا المعنى على هذا الشكل فيمكن انتقال آدم ليس من كوكب لكوكب بل هو كما في علم الأنثروبولوجيا الانتقال ـ ربما ـ من شرق أفريقيا إلى الشرق الأوسط قبل 65 ألف سنة ثم أوربا قبل 35 ألف سنة والتقاؤه هناك بإنسان من نوع آخر هو إنسان نياندرتال آخر نسخة إنسانية اختفت من وجه البسيطة، ولربما كان أجدادنا خلف اختفائه بالقضاء عليه طالما كان جنسنا مجرما بامتياز (تأمل التاريخ الإنساني الدموي). ثم وفي قسم منه الاتجاه شرقا حتى الشرق الأقصى وسيبيريا ومضيق بهرنك لينزل إلى آلاسكا وفوريدا ثم أمريكا الجنوبية ليستقر في جبل أنار حيث اعتقل ماجلان أحد أفراده ليأخذه تحفة إلى ملك إسبانيا فمات جوعا ومات معه جوعا 180 بحارا في مجاهل المحيط الهادئ. ومن المهم أن نعرف أن كل بقايا الإنسان العاقل في الأمريكيتين لم تزد عمرا عن 12 ألف سنة وهي نهاية الرحلة الإنسانية في عمارة الأرض وبناء المجتمعات البدائية تمهيدا لبناء الحضارة.
الكشف عن إنسان لوسي: في 3 نوفمبر من عام 1974م عثر الأنثروبولوجي الأمريكي (دونالد جوهانسون) مع مساعده (توم غراي)، عند ضفة نهر (أواش) في منطقة (هدار)، على بعد 240 كم شمال شرق العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، على بقايا هيكل إنساني يعود لأنثى كانت تمشي منتصبة، وخلال ثلاثة أسابيع من العمل المتواصل أمكن جمع حوالي 40 في المائة من الهيكل العظمي، وبفحص عمر العظام في مركز (كليفلاند) للأبحاث الجيولوجية أدركوا أنهم أمام أقدم كائن بشري، عرف حتى ذلك الوقت، وإذ عمتهم الفرحة لهذا الاكتشاف التاريخي بقوا طول الليل يكررون أغنية البيتلز (لوسي في السماء ومعها ألماس) لهذه الأنثى التي غيبتها طبقات الأرض قبل ما يزيد عن ثلاثة ملايين من السنين (3.2 مليون سنة) فأعطوها اسم (لوسي Lucy) وأصبحت علماً على هذا الاكتشاف المثير.
ولم تكن لوسي الأقدم بل وصل الرقم حالياً إلى سبعة ملايين من السنين، وهذا الرقم بدوره ليس بداية البداية للإنسان، بل قد يصل الرقم إلى عشرة ملايين سنة، كنقطة بداية لظهور الإنسان المنتصب، أو ما يعرف بجنس الهومونيد عموماً.
وقصة لوسي هذه تعلمنا أن تاريخ الأرض أقدم بكثير من كل تصور إنساني، والمفكرون قديما ومن كل الثقافات لم يجمح بهم الخيال أكثر من بضعة آلاف من السنين؛ فالطبري قدر عمر الوجود من البداية إلى النهاية في سبعة آلاف سنة، وشرَّاح العهد القديم جزموا ببدء الكون بسنة 4004م قبل الميلاد.
وذهب الفرس أبعد من ذلك فمطوا الرقم إلى حدود سبعين ألف سنة، ولكن (فرانك كلوز) صاحب كتاب (النهاية ـ الكوارث الكونية وأثرها في مسار الكون) من سلسلة عالم المعرفة (رقم 191 ص 12) كان حكيما حينما نقل عن الهنود في أحجية نقل الحجارة أن الكون يعود إلى عشرة بلايين (مليارات) من السنين، أما الفلاسفة مثل ابن رشد فقد تورطوا في فكرة أزلية الكون.
كذلك يختلط الأمر عند نقطة، هل وجد الإنسان دفعة واحدة أم أنه نشأ أطوارا؟ وفي علم الأجنة لوحظت هذه الظاهرة عند الأجنة الإنسانية، ومرورها في مراحل، قبل أن يُجْعَل الإنسان (خلقاً أخر) فتبارك الله أحسن الخالقين.
وفي القرآن إشارات لطيفة إلى أن الخلق تم في ستة أيام؛ فلم يحدث دفعة واحدة (ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب).
وإذا كان هذا صحيحا فقد تكون نفس خطة (المراحل) قد طبقت على خلق الإنسان فخلق (أطوارا) كما جاء في القرآن (ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا).
والعلم كتاب مفتوح، ولا يعني أن ما نقوله نهاية الحقيقة وسدرة المنتهى، بل ينمو العلم بآليتي الحذف والإضافة؛ فينمو بدون توقف، وفوق كل ذي علم عليم. ويجب أن لا نخاف من العلم. والعلم والإيمان في النهاية وجهان لعملة واحدة، كما في معادلة الطاقة والمادة.
والقرآن يفيد أن الخلق في حالة زيادة (يزيد في الخلق ما يشاء) وهذا يعني أن خلق الكون لم ينته، بل هو في رحلة تراكمية متتابعة، مثل اللوحة التي لم يكتمل رسمها بعد. وأن هناك من الخلق ما سوف يظهر (ويخلق ما لا تعلمون). وأن هناك النشأة الآخرة «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة». فهذه ثلاث حلقات في فهم الخلق الإلهي؛ بأن الخلق يتم (أطوارا) وأن الخلق لم ينته بل (يزداد) بدون توقف، وأن هناك من الخلق ما سوف نعلمه ويكشف عنه التاريخ أولاً بأول وبـ (كم) لا يكف عن التوسع مثل محيط لا يحيط العقل بشواطئه. ولو تحولت أشجار الدنيا إلى أقلام وتحول البحر مدادا يمده من بعده سبعة أبحر بالحبر ما نفدت كلمات الله.
وجدلية النص والعقل والتفسير ثلاثي صعب الاستقرار. وفكرتنا عن الخلق الإلهي ترجع في معظمها إلى تصورات بشرية يتم إسقاطها على النصوص. والله وصف الإنسان على أشكال مختلفة من الطين اللازب ومن حمأ مسنون وصلصال كالفخار، والفخار غير الطين وهي مرحلة متقدمة من جفاف الطين، والإنسان يخلق في بطن أمه خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث.
وقصة عمر الكون وتاريخ الأرض أو وجود الإنسان على الأرض أثارت خيال الناس؛ فمنذ متى خلق الكون؟ ومتى وجدت الأرض؟ ومنذ متى مشى الإنسان على الأرض؟ والأهم هل الإنسان القديم هو نفس الإنسان العاقل الثقافي الذي ننتسب إليه؟
وأنواع الإنسان المنتصب التي ظهرت على وجه الأرض كثيرة زادت عن عشرة. انقرضت كلها وبقي الإنسان العاقل المعروف بالهومو سابينز. وآخر نوع انقرض منها قبل 27 ألف سنة هو إنسان نياندرتال الذي كشف عنه عام 1856 للمرة الأولى عند مدينة (دسلدورف) الألمانية في كهف في وادي نهر (نياندر= تال باللغة الألمانية تعني واديا)؟ فيكون الاسم إنسان كهف وادي نهر نياندر.
وكانت التقديرات الأولية لظهور الإنسان العاقل (الهومو سابينز) تعود إلى حوالي أربعين ألف سنة. وهو الكائن الثقافي الناطق الذي استخدم الأدوات والحلي واعتنى بطقوس الميت ورسم الحيوانات على جدران الكهوف، ولكن الكشوفات الحديثة في ألمانيا التي أعلن عنها (ديتريش مانيا) (مجلة در شبيجل الألمانية ـ العدد 6 من عام 2004م) بعنوان (من الوحش إلى الآدمي ـ Vom Raubtier zum Menschen) دفعت الرقم إلى عشرة أضعافه فقد كشف عن 28 جمجمة وفكا سفليا وتسعة أسنان تعود إلى 370 ألف سنة. وكلها تفيد وجود إنسان استخدم الأدوات وطارد الوحوش وواجه السباع وقتل الماموث وتغذى بلحم الضواري.
ويعتبر كتاب داروين حول (أصل الأنواع والإنسان) هو حجر الزناد في قدح الأفكار حول منشأ الحياة والإنسان والرحلة التطورية، كما كان الدافع خلف نشوء علوم جديدة مثل علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) أو علم طبقات الأرض من الآركيولوجيا والباليونتولوجيا أو علاقة الجينات بالوراثة أو فكرة الطفرة في علم الجينات.
وعندما طرح (تشارلز داروين) آراءه في عامي 1859 م و1871م قامت ضجة كبيرة حول طروحاته وكان ذلك بعد رحلة سفينة البيجل التي أوحت إليه بأفكاره حول وجود الكائنات وآلية تطورها من خلال الانتخاب. ولو كانت الأفكار حول طفرة الجينات التي كشفتها (باربارا مك كلينتوك) من نيويورك وكذلك قوانين مندل في الوراثة معروفة أو ما كشفه علم الأنثروبولوجيا من حفريات الإنسان كما هو اليوم ليتم استقبال الأفكار بهدوء علمي أكثر.
ولكن أفكار داروين هزت العالم وما تزال، وحتى نحن نناقشها بعد مرور أكثر من قرن ونصف نقولها بحذر شديد. مع أن العلم لا يرحم فهو يشق طريقه بقوانينه الخاصة، فليس أعظم من العلم، ولا أروع من السلم. وداروين لم يتكلم عن الخالق، بل عن الخلق، وطبق الآية القرآنية فسار في الأرض فنظر كيف بدأ الله الخلق.
مع هذا فالفكر الفلسفي ليس مفتاح الوصول إلى حقائق الأشياء، بل اعتماد أساليب جديدة لكشف الحقيقة، أي فهم لغة جديدة حروفها ليست نطقا هجائيا بل حديثا من نوع آخر. وعبر عن هذه الفكرة المؤرخ البريطاني (هـ . ج. ويلز) بشكل آخر في كتابه (معالم تاريخ الإنسانية) حينما اعتبر أن الجواب عن هذه الأسئلة لا يأتي من الكتب بل من الأرض. ويعتبر (سجل الصخور) هو الوثيقة التي تنير الطريق لمعرفة مثل هذه التطورات المفيدة.
إن التاريخ الفعلي للإنسان لم يبدأ بعد إذا أخذنا بعين الاعتبار الامتداد الزمني الرهيب لتاريخ الأرض حوالي خمسة مليارات سنة (4,6) مقارنة بعمر الحضارة بستة آلاف سنة، واحتمال امتداد الحياة بنصف مليار سنة أخرى، ما لم يرتكب الجنس البشري حماقة إفناء جنسه.
فما الذي ينتظر الإنسان إذاً؟ وهل التاريخ ختم عليه وانتهى كما زعم (فرانسيس فوكوياما) أم أننا أمام بداية التاريخ؟ وبماذا يختلف (فوكوياما) عن العجائز في بلادنا الذين كانوا يقولون تؤلف ولا تؤلفان. أي أن العالم سينهدم، وأن التاريخ الهجري لن يستمر في تدفقه مع الألف الثانية.
إن (فوكوياما) مع حقيقة التاريخ تذكرني بقصة جحا كيف فرق بين الحي والميت، فقد سأل امرأته ذات يوم عن الفارق بين الحي والميت؟ فقالت إذا بردت رجلاه ويداه. فخرج يوما إلى الجبل يحتطب في فصل الشتاء فشعر ببرد في يديه ورجليه؛ فتذكر قول امرأته فقال: لا شك أني ميت، ثم استلقى على ظهره وترك حماره سارحاً في الفلاة، فهجمت عليه عصابة من الذئاب فافترسته، وهو يرى بعينه ما يجري؛ فرفع رأسه قليلا وقال «أيها الجبناء أتفتكون بحمار مات صاحبه ولا من يدافع عنه؟ لو كنت حياً لأريتكم.