شوف تشوف

الرأي

يحدث في الكوكب الآخر

بعض الأخبار أنوار تلمع وتنعش وتضيء أشواق الأمل والثقة، فحين دعت رئيسة حزب «البديل لألمانيا» فراوكه بترى الشرطة إلى قتل اللاجئين «وتصفيتهم» إذا ما حاولوا دخول البلاد بشكل غير شرعي، فإن دعوتها قوبلت باستهجان شديد، حيث تصدى لها بعض ممثلي الأحزاب اليسارية واستهجن كلامها اتحاد الشرطة الألماني. إذ رد عليها مستنكرا توماس أوبرمان العضو البارز في الحزب الديمقراطي الاجتماعي الممثل ليسار الوسط قائلا إن آخر زعيم ألماني كانت تطلق في عهده النار على أمثال هؤلاء هو أريش هوينكر زعيم ألمانيا الشرقية في المرحلة الشيوعية، وتلك جريمة ينبغي ألا تتكرر.
من ناحية أخرى، قال متحدث باسم اتحاد الشرطة الألماني إنهم لن يطلقوا النار على المهاجرين المدنيين العزل أبدا، لأنهم ملتزمون باحترام القانون، مضيفا أن دعوة بترى تنم عن عقلية متطرفة وغير إنسانية، ومثل تلك الآراء المتشددة مرفوضة وتستحق الحساب لأنها تشجع على الكراهية وتدعو إلى القتل خارج القانون.
الإضاءة في حالة وزيرة العدل الفرنسية أكبر، ذلك أن السيدة كريستيان توبيرا التي شغلت ذلك المنصب منذ عام 2012 رفضت التعديلات التي أراد الرئيس هولاند إدخالها على الدستور بدعوى مكافحة الإرهاب، بعدما تعرضت باريس مرتين للعمليات الإرهابية خلال شهري يناير ونوفمبر الماضيين. وأراد بالتعديل الأول النص على إسقاط الجنسية عن الفرنسيين الذين يتمتعون بجنسية مزدوجة، إذا ما أدينوا في العلاقة بالإرهاب، حتى وإن ولدوا على الأراضي الفرنسية. التعديل الثاني دعا إلى إدخال الطوارئ في الدستور.
تحفظت على التعديلين الوزيرة ذات البشرة السوداء، (مولودة في غوايانا الفرنسية التي تعد أحد أقاليم فرنسا الواقعة وراء البحار على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية)، إذ وجدت أن فيها مساسا بحقوق المواطنين الأساسية، باعتبار أن الجنسية لا يجوز سحبها من صاحبها تحت أي ظرف، حتى إذا أدين في جريمة إرهابية، ذلك أن القانون تكفل بعقابه في هذه الحالة، وليس من حق الدولة أن تمعن في التنكيل به بعد تطبيق النصوص القانونية عليه. ثم إن الوزيرة الرافضة للتعديلات وجدت أن عليها أن تدافع عنها أمام البرلمان، فأدركت أنها تطالب بتبني موقف يتناقض مع قناعتها كوزيرة للعدل فقدمت استقالتها، وعادت إلى بيتها مستخدمة الدراجة التي كانت تركبها في الذهاب إلى مكتبها. وكتبت على صفحتها تغريدة قالت فيها ما نصه: «أحيانا تتم المقاومة بالبقاء والصمود، وأحيانا تعني الرحيل لتكون الكلمة الأخيرة للأخلاقيات والحق».
ثمة خبر منير ثالث قرأته عن وزير اقتصاد أوكرانيا إيفاراس إيرومافيسيور الذي قرر تقديم استقالته من منصبه لسبب لا يخطر على بال أحد، فقد نشرت الصحف الصادرة في 2 يناير أن الرجل وجد أنه غير قادر على القيام بالإصلاحات اللازمة لتحقيق النمو في بلاده بسبب العراقيل التي تضعها مراكز القوى في طريق جهوده، وحين أدرك ذلك فإنه رفض الاستمرار في منصبه، وقرر أن يغادره كي يتيح الفرصة لغيره ممن يجدون لأنفسهم القدرة على تمكنهم من القيام بالمهمة.
حين يطالع المرء مثل هذه الأخبار بعد أن يطوي صحف الصباح المحلية فقد يخطر له أن أمثال هؤلاء الناس قادمون من كوكب آخر غير الذي نعرفه ونعيش فيه. أستثني منهم الألمانية زعيمة الحزب اليميني التي دعت إلى إطلاق الرصاص على اللاجئين، إذ يشك في أن لها نسبا ببعض عناصر السياسيين والإعلاميين عندنا، التي تهلل للقتل والتصفية وتروج للكراهية طول الوقت معتبرين الإبادة والإقصاء عملا وطنيا يدعم الدولة والنظام.
تغرينا تلك النماذج بالمقارنة، فنستغرب كلام ممثل اتحاد الشرطة الألماني، ليس فقط لأن الشرطة في بلادنا مطلقة اليد في استباحة كرامات الناس بإجماع تقارير المنظمات الحقوقية المستقلة، ولكن أيضا لأن القانون يشجعها على ذلك ويحميها (المادة الثامنة في قانون الكيانات الإرهابية أعفت الشرطة من أي مساءلة جنائية إذا استخدمت القوة في أداء واجبها). كما أن موقف وزيرة العدل الفرنسية يبدو أسطوريا وخياليا إذا قورن بوزير العدل عندنا الذي دعا إلى قتل عشرة آلاف من عناصر الإخوان أو مشجعيهم مقابل كل جندي يقتل، كما اشتبك مع مجلس الدولة وانتقده حين رفض اقتراحا له يخول القضاء حق الاستغناء عن الشهود، الأمر الذي يهدر أحد الضمانات المقررة للدفاع عن المتهمين، وهو من أصدر قرارا يجيز انعقاد محكمة النقض داخل أحد مقرات الداخلية الأمر الذي اعتبره القضاة إهانة لهم ورفضوه. أما حكاية الوزير الذي استقال لأنه لم يعد قادرا على تنفيذ التنمية في بلاده، فتبدو نكتة عندنا لأن ذلك صنف من المسؤولين انقرض في بلادنا ولم يعد له وجود.
أدري أن السياسيين في الكوكب الآخر ليسوا كلهم من تلك النماذج التي أشرت إليها، ففيهم الصالح والطالح. إلا أن ما يهمني في الأمر هو البيئة السياسية التي أفرزت هؤلاء وهؤلاء، التي ينبغي أن تقارن بالبيئة المقابلة التي أنجبت النماذج التي أشرت إليها عندنا، وهي المقارنة التي لا تشعرنا بالحزن والخجل فحسب، لكنها أيضا تنبهنا إلى أن المسافة بيننا وبين قيم التقدم أبعد كثيرا مما نتصور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى