حسن البصري
في جنازة الفنانة نعيمة المشرقي لوحظ حضور مجموعة من الأسرى السابقين في سجون البوليساريو، كانوا يستندون على حائط مقبرة الشهداء بالدار البيضاء، وهم يصادرون دموعهم ويحتمون بظل الحيطان تجنبا لضربات شمس تؤلم هوان أجسادهم.
ماذا يفعل ضحايا التعذيب في جنازة فنانة وسط أهل المسرح؟
ما علاقة معتقلين سابقين في سجون الرابوني بجنازة حاشدة يسير خلفها نجوم الشاشة والتلفزيون؟
ما محل المعذبين في أقبية الانفصاليين من الإعراب في جنازة فنانة؟
كفكفوا دموعهم وساروا خلف الجنازة وفي آذانهم صدى صوت الإمام وهو يدعو لتسوية الصفوف، «جنازة امرأة».
في سيرهم خلف الجثمان استحضروا دور الفقيدة في ملف الأسرى المدنيين العائدين من سجون البوليساريو، من موقعها كرئيسة لجمعية ائتلاف وطننا، ونضالها من أجل كرامة أسرى غادروا السجون دون أن يغادرهم الألم.
كانت نعيمة «فنانة» في الترافع من أجل كرامة الأسرى، وكانت من المنظمين لمسيرة مليونية ومطالبة بتحرير المحتجزين ورد الاعتبار لهم.
ساهمت الفقيدة في توفير سكن للمدنيين المفرج عنهم، ودعتهم إلى كتابة مذكراتهم وخوض معركة ما بعد الإفراج، ودعت المنتجين إلى الاستثمار في أعمال فنية تلامس القضايا الكبرى للوطن.
وصفها أحد العائدين من سجن الرشيد بالرابوني، بوزيرة حقوق الإنسان غير المعلنة وزعيمة هيئة الإنصاف والمصالحة حين انتهت الهيئة بيد السياسيين، وقال إنها تنخرط في مبادرات إنسانية بوجدانها، وتستثمر شبكة علاقاتها لتضميد الجراح ومسح آثارها.
يجمع الضحايا، الذين اقتص منهم النظام الجزائري سنوات الجد والنشاط، على أن أفضل الأدوار الملهمة التي لعبتها الفنانة الراحلة، هي أدوار صون الكرامة وجبر الضرر وترميم ما أفسده الفكر الانفصالي الغادر.
جسدت الفقيدة القيمة الحقيقية للفن عندما وضعته في خدمة قضايا الوطن، حين كانت سفيرة للنوايا الحسنة لدى منظمة اليونسيف، ومستشارة في المرصد الوطني لحقوق الطفل وعضوا في الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، ولما انخرطت في كل المبادرات التي تمسح دموع المكلومين من أبناء هذا الوطن.
ناضلت نعيمة من أجل إطلاق سراح المدنيين الذين اقتطع الأعداء من حياتهم زينة الحياة الدنيا، وسعت جاهدة إلى فك الأسر عن قانون الفنان الذي قضى سنوات طويلة رهن الاعتقال، كغيره من القوانين التي تتعلق بصناع الفرجة من مدربين ولاعبين وتشكيليين ومبدعين.
ماتت دون أن يفرج عن قانون الفنان، وقدر لها أن تعيش وهي على سرير المرض انفلاتا رهيبا في المهنة التي اقتحمها المؤثرون، فجلس المهنيون في المقاهي كقوة إبداعية معطلة وتهافت المنتجون على جامعي «اللايكات». وكلما اشتكى إليها فنان مهني من هذا الاختراق، تتقاسم معه هموم مهنة انتهكها صناع المحتويات. وقبل أن تنتهي الشكوى تدس في يد المشتكي أوراقا مالية قد تفك جزءا من كربته، وتودعه بالدموع وكأنها تجسد على أرض الواقع دور «لحبيبة مي».
بعيدا عن محيط السياسة والنقابة، تستحق نعيمة المشرقي منصب وزيرة منتدبة في محو الأمية، أبناء جيلي يتذكرون برنامج «ألف لام» الذي كانت تقدمه نعيمة بإطلالة كلها وقار، وهي تردد عبارة بدء الحكي: «كان حتى كان والله كبير فكل مكان، حتى كان الحبق والسوسان فحجر النبي العدنان عليه أبهى الصلاة وأزكى السلام».
هكذا تبدأ الحكاية وفي كل حلقة درس مستفاد، قبل أن تحصل غارة الرداءة ويصبح التلفزيون رهينة بين يدي نجوم اليوتوب وخريجي التيك توك، فيما يتابع الفنانون المهنيون الوضع من كرسي البدلاء كلاعبين احتياطيين يطالبون بنصف فرصة.
ماتت الفنانة دون أن يتحقق حلم الكرامة الذي راهنت عليه.