يونس جنوحي
ربما كان وباء كورونا يحمل بعض الحكمة. إذ منذ 2019 لم تُعقد قمة عربية، وأعفي المواطن العربي من المحيط إلى الخليج من مشاهد الخروقات والارتجال البعيد كل البُعد عن الأصول الدبلوماسية المتعارف عليها عالميا، التي تخللت وصول وزراء الخارجية العرب وأخبار إعلان دول وازنة، ولها تاريخ كبير في تنظيم واستضافة نسخ القمم العربية سابقا، عدم مشاركتها في القمة التي تستضيفها الجزائر.
المضايقات التي تعرض لها الوفد المغربي لم ير الإعلام مثيلا لها، حتى في الأزمة التي وقعت فيها مواجهات مسلحة وتصعيد سياسي ودبلوماسي واضح.
وبلغة السياسة فهذا يعني أن الأزمة الجزائرية وصلت إلى القاع، ولا يمكن أن تحفر نحو الأسفل.
الساعات التي عاشها وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، تُحاكي ما يقع لوفود المنظمات الإنسانية عندما تنزل في المدن المنكوبة، أو للصحافيين الدوليين عندما ينزلون في نقاط التوتر خلال الحروب. لكن أن يحدث كل هذا لوفد دبلوماسي يمثل مملكة وبلدا جارا، فهذا يعني أن أحدا ما غير معني أبدا بالقصر الرئاسي، يُحرك خيوط تلك المضايقات.
وبما أن هؤلاء الناس الذين يقولون إنهم يسهرون على إنجاح القمة العربية التي تستضيفها الجزائر، لا يقرؤون الأخبار، فيجب أن نُذكرهم بما كتبه سياسيون مغاربة، التحقوا بالرفيق الأعلى، وواكبوا الأحداث الحقيقية التي فرقت بين المغرب والجزائر، قبل قرن تقريبا.
كان أحد أبرز الفقهاء والقضاة المغاربة، واسمه الحاج أحمد سكيرج، قد عكف خلال السنوات الأخيرة من حياته الحافلة بالأحداث والمهام، على تدوين مذكراته بشكل يومي إلى أن دُفن بمراكش سنة 1944. وتحولت أوراقه إلى أرشيف العائلة قبل أن يُدقق فيها زملاؤه وأصدقاؤه، وأبرزهم الفقيه المغربي الكبير عبد الله گنون.
جاءت في هذه المذكرات تفاصيل كثيرة تتعلق بتوقيع معاهدة الحماية، والأخبار التي وصلت إلى أذن سكيرج، أو التي رآها بعينه وعاش تفاصيلها من موقعه كإحدى الشخصيات الكبرى في البلاد.
ومن بين الأحداث التي عاشها هذا القاضي شخصيا، توقيع معاهدة الحماية، إذ كان المغرب وقتها قِبلة لموظفين جزائريين اختاروا المجيء إلى المغرب، للبحث عن عمل مكتبي في الترجمة والكتابة وتحرير الرسائل والاشتغال في الدواوين. ولم يكن المغاربة من أمثال سكيرج يتصورون أن بعض هؤلاء الجزائريين سوف يصبحون عين فرنسا على المغرب.
وقد جاء في هذه المذكرات التي اختار لها سكيرج العنوان التالي: «النتائج اليومية في السوانح الفكرية»، ما مفاده أنه استغرب بنفسه وهو يسجل يوم وصول الوزير الفرنسي السيد «رونيول»، الذي كان يحمل معاهدة الحماية في جيبه قادما بها من باريس. وكان خبر التوقيع وقتها قد انتشر في المغرب ووصل إلى كل مكان. إذ بدل أن يكتب يوم «الأحد 14 أبريل 1912»، كتب دون شعور: «يوم الأخذ».
والمثير أن هذا القاضي المغربي، وهو يتحدث عما وقع بعد ذلك اليوم، تناول أحداث يوم 17 أبريل، الذي صادف يوم أربعاء، وكان يردد كثيرا عبارة «وما أدراك ما يوم الأربعاء». إذ إن هذا القاضي المغربي الذي كان قريبا جدا من الأحداث، بحكم اشتغاله في قصر فاس، تحدث مسهبا عن تورط الجزائريين في كواليس معاهدة الحماية. إذ أكد موظفون سامون آخرون ما وقع في شهر مارس، الذي وُقعت المعاهدة في آخر أيامه، وتحدثوا عن لقاء مُريب في ضواحي مدينة فاس، بين الوزير الفرنسي «رونيول» والجنرال الفرنسي «موانيي»، وحضر للقاء معهما الوزير المقري، المعروف أنه كان جزائريا. وقد كان المقري الأجنبي الوحيد في الخيمة التي احتضنت الاجتماع على مشارف فاس بين مسؤولين فرنسيين، بالإضافة إلى صحافي فرنسي أيضا.
ورغم أن المقري، الجزائري الأصل، لم يُرحب أبدا بأي تواصل بين المغاربة والجزائريين خلال فترة الاستعمار، بل حارب بكل ثقله لكي لا يكون هناك أي تنسيق مسلح لمواجهة فرنسا، إلا أنه كان سنة 1955 يراقب منهكا تطورات حصول المغرب على الاستقلال وطرده من المغرب. وحتى الجزائر لم تقبل به فوق ترابها، فسافر رأسا إلى فرنسا.
بعد كل هذا، سوف تتحدث الصحافة الجزائرية عن أشغال اليوم الأربعاء، ولن تدخر جهدا في اتهام المغرب بالخروج عن «الوحدة»!