وزارة لطيفة جدا
يحكى أن هذه الحكومة جاءت بها رياح حراك شعبي هو الأول من نوعه لمحاربة الفساد أولا وأخيرا، لذلك فقد أحسن الحزب الأغلبي الذي يقود هذه الحكومة استغلال هذه الموجة، وكان شعاره الأول إبان الانتخابات البرلمانية هو «محاربة الفساد والمفسدين». لكن بمجرد مجيء رئيسها اعترف بكون المفسدين هم بشر ذوو قدرات خارقة، سماهم بـ«العفاريت والتماسيح». فلم يجد غير شعار عفى الله عما سلف، لكي ينقذ ماء وجهه، أمام فشله في محاربتهم. لذلك ها هو يضرب أخماسا بأسداس لإصلاح ما أفسدوه، ويجعل الشعب يدفع ثمن ذلك، بينما المسؤولون عن الفساد الذي لحق بصناديق التقاعد مثلا، ينعمون بما نهبوه وما سرقوه، فرحين بالصفة «الميتابشرية» التي ألصقهم بها رئيس الحكومة.
فهذه الأيام ستفرج الوزارة عن لائحة المسؤولين الإقليميين والجهويين، سواء الذين استفادوا من تنقيلات أو الذين سيتم تعيينهم أو تثبيتهم. لكن الطريقة التي اختارت بها وزارة التربية الوطنية اختيار لائحة هؤلاء غريبة وعجيبة. فبدل أن تعمل أولا على تقديم كل ملفات الفاسدين منهم للقضاء. فإنها اختارت الحل الجبان التالي: إعفاء المسؤولين من مناصبهم وكفى المؤمنين شر القتال، أي أن شعار «عفى الله عما سلف» انتقل من مجرد تعبير ورد في «لحظة عجز»، إلى شعار تدبر به القطاعات الحكومية كلها الشأن العام. ففي حالات كثيرة، أثبتت تقارير المفتشية العامة للوزارة، وكذا مفتشية وزارة المالية والمجلس الأعلى للحسابات أنهم فاسدون. لكن عوض محاسبتهم، قامت الوزارة في عهد محمد الوفا، بإعفاء البعض منهم. وهاهي اليوم تقوم بإعفاء لائحة أخرى. لكن سيتم إعفاءهم من المحاسبة أيضا. لذلك سيحصلون على تقاعد مبكر ليتفرغوا لاستثمار ما نهبوه. قد يقول قائل أن هذا مجرد كلام. وأن المسؤولين الذين يتم إعفاؤهم تتم إعادة تعيينهم في أماكن عملهم الأصلي، إما كمفتشين أو إداريين. وجوابنا هنا هو: نتحدى أي شخص يدلنا على مسؤول سابق، سواء نائب إقليمي أو مدير أكاديمية التحق بمقر عمله الجديد. فالحقيقة المرة هي أن كل الذين يتم إعفاؤهم يصبحون أشباحا. يتقاضون رواتبهم دون أداء واجبهم. ويتفرغون لمشاريع يمولونها مما نهبوه وحصلوا عليها من رشاوى. سواء من المقاولين أو شركات التدبير المفوض. ليصبح الإفلات من العقاب فلسفة رسمية بوزارة التربية الوطنية.
فعندما ظهرت حركة تنقيلات جزئية للنواب الإقليميين في عهد الوزير السابق محمد الوفا، جمع كل النواب الذين تم إعفاؤهم في قاعة تابعة لمركز الملتقيات التابع للوزارة. ونادى على كل واحد منهم باسمه، مبررا لكل لهم قرار إعفاءهم. لكن دون أن ينسى تذكيرهم جميعا، بكونهم «مضطرون للعودة لمقرات عملهم دون ضجيج وإلا فالتقارير المنجزة عنهم موجودة»، بمعنى أن الوزير السابق ساهم عن سبق إصرار في ما يسمى في القانون بـ«التكتم عن جريمة» لكونه اعتمد على ملفات لإعفاء مسؤولين، ولكنه اكتفى بذلك فقط. هكذا لم يلتحق أيا منهم بمقر عمله. بل أصبح أغلبهم مستثمرين. منهم من أضحى مستثمرا في العقار ومنهم من أنشأ مدارس خاصة (خمس مدارس كبرى في الرباط لوحدها أنشأها بعض هؤلاء). وبدل أن يدفعوا ثمن جرائم الفساد التي ارتكبوها، فإنهم يستغلون كوارث التعليم العمومي مرة أخرى للربح في التعليم الخصوصي. إنها وزارة لطيفة جدا.