وجود إيران في سوريا
عبد الباري عطوان
كان لافِتًا الرَّبط بين سوريا والعِراق مَعًا في التَّصريحات التي أدلَى بِها السيد علي ولايتي، مُستشار السيد علي خامئني، المُرشد الأعلى في إيران، أثناء مُحاضرةٍ ألقاها على هامِش زِيارته إلى موسكو وتزامَنت مع زِيارة بنيامين نِتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، حَمَل خِلالها رِسالةً من القِيادة الإيرانيّة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حول اللَّغَط المُتصاعِد حاليًّا حول وُجود قُوّات بِلادِه في سوريا.
أهَم ما ورَد في هَذهِ التَّصريحات تأكيده «أنّ الوُجود الإيرانيّ في سوريا والعِراق «استشاريٌّ»، وإذا أرادَت حُكومَتا هاتان الدَّولَتان خُروجَنا سَنُلبِّي طَلبَهُما فَورًا»، ولكنّه استطرد قائِلاً: «حكومة الرئيس بشار الأسد كانت ستَسقُط خلال أسابيع لولا مُساعَدة إيران، ولو لم تَكُن إيران موجودةً لكانت سوريا والعِراق الآن تحت إمْرَة أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم (داعش)».
السيد ولايتي لم يُجانِب الحَقيقة مُطلَقًا، وقَدَّم تَوصيفًا دَقيقًا للوَضع في البَلدين، وأراد في الوَقتِ نَفسِه تَوجيه رسالة إيرانيّة واضِحة إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي والحُكومة الروسيّة معًا يقول مَضمونها، إنّ القُوّات الإيرانيّة «باقِية» في البَلدين، وكُل المُطالبات بانسحابِها لن تَجِد آذانًا صاغِية، لأنّه «إذا انسحَبت هَذهِ القُوّات مِن سوريا، فإنّ الإرهاب سَيعود للسَّيطرةِ مُجدَّدًا».
النُّقطة الأُخرى التي لم يَقُلها السيد ولايتي، أنّ الحُكومَتين في سوريا والعِراق لم يَطلُبا من القُوّات الإيرانيّة الخُروج من أراضيهِما، لا في الماضي ولا في الحاضِر، وربّما في المُستَقبل أيضًا، لِما يُمكِن أن يَترتَّب على ذلِك من نتائِج خطيرة تَعرِفانِها جيّدًا.
***
إيران خَسِرت عَشرات المِليارات لإنقاذ حُلفائِها في سوريا والعِراق، مِثلما خَسِرت المِئات من الجُنود والضُّبّاط أيضًا، ناهِيك عن خَسائِر حُلفائِها التي تُقَدَّر بآلافِ الجُنود، وأي ضغوط أو مُطالِبات إسرائيليّة بخُروجِها تَنطَوِي على الكثير من «السَّذاجة» و«سُوء التقدير»، خاصَّةً أن هذا الخُروج يأتِي لطَمأنَة الإسرائيليين الذين يُشَكِّلون رأسَ حِربَة في أيِّ حَربٍ أمريكيّةٍ قادِمَةٍ، وربّما وَشيكةٍ، ضِد إيران.
إنّ أكثَر ما يُقلِق الإسرائيليين هَذهِ الأيّام ليس وُجود مُستشارين عَسكريين إيرانيين في سوريا والعِراق فقط، وإنّما أيضًا الأذرُع العَسكريّة التي أسّستها وعَزّزتها إيران في المِنطَقة، وعلى حُدود فِلسطين المُحتلَّة في الشمال اللبناني والغَرب السوري، وفي الغِلاف الإسرائيلي الشمالي والغربي، مِثل «حزب الله» في لبنان، والحشد الشعبي و«حزب الله» العِراقي في العِراق، وحركات شيعيّة مُسلَّحة أفغانيّة وباكستانيّة وعِراقيّة، عَلاوةً على حركة «أنصار الله» الحوثيّة في اليمن.
القَرار السُّعودي بإغراق الأسواق العالميّة بأكثَر مِن مِليونيّ بَرميل عام 2014، ممّا أدّى إلى انخفاض الأسعار إلى ثلاثين دولارا للبرميل (كان سعره 119 دولارا في حينها)، كان يَهدِف إلى تَوجيهِ ضَربةٍ مُزدَوجةٍ للاقتصادين الإيرانيّ والروسيّ، ودَفعِهما نَحو الإفلاس، الأمر الذي سيَجعل السُّلطات الإيرانيّة عاجِزةً عن تَمويلِ هَذهِ الأذرُع العَسكريّة، ولكن هَذهِ الخُطوة التي نَجحَت جُزئيًّا، جاءَت بنتائِج عكسيّة وألحَقت الضَّرر الأكبَر بالاقتصادَين السُّعوديّ والخَليجيّ، وقُدراتِهما في الحِفاظ على الدَّولةِ الرَّيعيّة، والاستمرار في تَحييد مُواطِنيها وامتصاصِ غَضبِهم، وإرضائِهم مَعيشِيًّا أيضًا.
بعد أربَع سنوات، نُشاهِد مَلامِح مُحاولة أمريكيّة جديدة لتِكرار السِّيناريو نَفسِه، وحظر صادِرات النِّفط الإيرانيّة كُلِّيًّا، على أمَل أن تُحَقِّق هَذهِ الخُطوَة ما فَشِلت فيه الخُطوة السَّابِقة، ولكن احتمالات النَّجاح تبدو أكثَر مَحدوديّة هَذهِ المَرّة، وسَتكون نتائِجها العَكسيّة مُدمِّرة، لأنّها ستُشعِل فَتيل تَحرُّشات عَسكريّة ومُواجَهاتٍ قد تقود إلى حَربٍ شامِلة عُنوانها الأبرَز الدَّمار للمِنطَقة بأسْرِها.
***
ما لا يَعرِفه الذين يُطالبون بإخراج إيران من سوريا، أن هذا الوجود هو «بوليصة تأمين»، أو بالأحرى قُوّة ردع في مُواجَهة أي تَحرُّك أمريكي إسرائيلي لضَرب إيران، وهذا ما يُفَسِّر قول سيرغي لافروف، وزير الخارجيّة الروسي، إنّ الطَّلب الإسرائيلي من موسكو بإنهاء هذا الوجود ومَنع تحول سوريا إلى ممرّ لشُحنات الصَّواريخ الإيرانيّة إلى «حزب الله» في جَنوب لبنان «غَير مَنطقي» و«غير واقِعي» أيضًا، ونُضيف إليه أنّه ليس باستطاعَة روسيا تنفيذه، ناهِيك عن كَونِها لا تُريد.
ربّما تتقلَّص المُساعَدات الماليّة الإيرانيّة للحُلفاء في العِراق ولبنان (هناك تقارير غَير مُؤكَّدة تقول إنّ المُساعدات لحِزب الله انخَفضت من مِليار دولار إلى 600 أو 700 مليون دولار سَنويا)، ولكن هذا التقليص لن يُغير من القدرات العَسكريّة والمَعنويّة لهَذهِ الأذرُع، لأنّها عقائديّة قبل أن تكون سِياسيّة.
جميع ما ذكرناه آنِفًا كان مَطروحًا حَتمًا على قِمّة أجِندات لِقاء القِمّة بين الرئيسين الروسي والأمريكي في هلسينكي، أمس الاثنين، وربّما لا نُبالِغ إذا قُلنا إنّ الرئيس دونالد ترامب سَيعود مِنه خالي الوِفاض، تمامًا مِثلَما كان حال نتانياهو أثناء زِيارته الأخيرة إلى موسكو، فإيران التي دَخلت سوريا «مُكرَهةً»، وخاضَت حَربا لِسِت سنوات لإنقاذ الأسد من مؤامرة إسقاطه، لن تخرج منها إلا بحرب أيضا.. والأيام بيننا.