والكل في فاس..
يونس جنوحي
لم يكن هذا ما نريد أن نخبر به العالم هذه الأيام، لكن ما انتشر الآن عن المغرب هو أزمة البرلمان التي أدخلنا فيها السيد إدريس الأزمي، عمدة مدينة فاس.
وبدل أن نطالع اسمه في أخبار تطويق الوباء في المدينة، ها نحن نلاحق صوره في الصفحات الساخرة.
والحقيقة أن هؤلاء السياسيين يستحقون براءة اختراع لصنف جديد من السخرية، تمارس فوق الكراسي في وضعية الجلوس وليس وقوفا كما هو شأن بقية «ساخري» الكوكب.
في وقت تصدر أخبار الدول في الصحافة الدولية في ركن أخبار السباق العلمي حول ترويج لقاح للفيروس، لا نساهم نحن إلا بنقاش المعاشات.
وبما أن عمدة واحدة من أقدم مدن المغرب، قد دخل نادي المدافعين باستماتة عن امتيازات حضرات النواب والوزراء، فإنه التحق بلائحة من زمن أسماء القياد أصحاب الجلابيب، الذين دافعوا إلى آخر رمق في حياتهم عن امتيازاتهم المالية، في وقت كان فيه الشعب لا يجد حتى كلأ البهائم.
ماذا سيضير نواب الأمة لو تخلوا عن الامتيازات التكميلية؟ هذه المناصب ليست أصلا تجاريا، ومن يلج إليها لا يجب أن يفكر في امتيازاته بقدر ما يجب عليه أن يفكر أولا في الصالح العام. من أراد مراكمة الثروة عليه التوجه إلى السوق، وليس إلى البرلمان أو المجالس المنتخبة.
في زمن آخر، كان أمثال عمدة فاس يحصلون من الدولة على أجور منتظمة، يستخلصونها بأنفسهم على شكل اقتطاعات من الضرائب المباشرة، التي يحصل عليها أعوانهم من الأسواق. وعندما يرغبون في الحصول على أكثر، كانوا ينزلون إلى الأرض للبحث عمن يسرق منهم الضرائب.
واليوم هناك مراسلات في أرشيف خزانة المملكة تشهد على مواقف خدام الدولة، الذين كان بعضهم لا يفكرون إلا في مراكمة الثروة وحصد الامتيازات، دون أن يفكروا لحظة أنهم في مناصب مسؤولية، لم يكن ربطها بالمحاسبة «موضة» في ذلك التاريخ.
وفي فاس تحديدا، عاش أثرياء كانوا يدفعون الضرائب للدولة في الصناديق، وبعضهم أصبحوا مسؤولين كبارا في الدولة لاحقا، لأنهم وجدوا أن هناك قوة أكبر من قوة المال.
نحن لا ندعو إلى إفقار المسؤولين المغاربة، لكن الإشراف على الشأن العام يجب ألا يكون طريقا نحو مراكمة الامتيازات في بلد الكل فيه مدعو إلى شد الحزام.
في الدول العريقة في الديموقراطية، تتوقف أجرة خدام الدولة مهما علا شأنهم بمجرد انتهاء مدة خدمتهم للشأن العام، لكي يعودوا إلى كسب قوتهم وتأمين مستقبل أسرهم بالدبلومات والأنشطة التي كانوا يمارسونها، قبل دخولهم الحياة السياسية.
أما هؤلاء الذين ابتلانا الله بهم، فيرغبون في جعل المنصب الذي وصلوا إليه صمام أمان لمستقبلهم الشخصي ومستقبل أسرهم.
هناك قصة معبرة للغاية، يجب على كل من يريد دخول الحياة السياسية هضمها جيدا، وابتلاع خلاصتها مرة واحدة. كان هناك وزير في فاس، بدأ موظفا بسيطا للغاية في أسفل السلم الإداري، وفي سنة 1894 أصبح فجأة وزيرا للدولة فوق كل الوزراء، بل وكانت لديه سلطة تعيين الوزير الأول.
هذا الوزير اسمه المهدي المنبهي، ولأنه عاش الفقر وقلة ذات اليد، لم يرد أن يجرب أبناؤه الفقر من بعده، وظل يجمع المال إلى أن انشغل عن وزارة الدفاع التي كان يديرها في زمن الفتنة، ليقال من منصبه بدون مقدمات، ويغادر فاس صوب المنطقة الدولية، ليحتمي بالإنجليز في أقصى الشمال.
حاول المهدي المنبهي تأسيس ملعب الغولف وبنى ملعبا للتنس، ونسي حياة فاس ودخل باب الاستثمار، وحافظ على علاقته بملوك الدولة العلوية، إلى أن توفي في بداية أربعينيات القرن الماضي.
وبعد سنوات على وفاته، يحكي الباحث المغربي الصديق الروندة أن أحد مصادره التقى بواحد من أبناء المهدي المنبهي نائما قرب مدفأة حمام شعبي، لأنه باع كل ما ترك له والده الوزير. الفقر الذي خاف المنبهي أن يصل إلى أبنائه، تجاوزه واحد منهم لكي يجرب الجوع والتشرد.
إن مدينة فاس التي أصبح السيد الأزمي عمدة لها، أرض تحفظ تحت كل حصية منها درسا من دروس الحياة العميقة. يجب فقط أن يترجل العابر منها بين الفينة والأخرى من سيارة الخدمة، ويجرب المشي حافيا فوق الأرض، لكي يفهم أن السلطة لا تدوم، وامتيازاتها لا يجب كذلك أن تبقى.