شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفنوطنية

هناك ما هو أخطر من الزلزال..

يونس جنوحي

هناك قلق كبير بشأن تضرر المعالم التاريخية، بسبب زلزال الحوز وتارودانت. لا يجب أن ننسى أن مسجد تنمل، المعلمة الموحدية التي يعود بناؤها إلى قرابة ألف سنة، تهدم ويتطلب ترميمه مجهودا كبيرا وتدخلا من فرق متخصصة في ترميم المآثر التاريخية.

الأمر نفسه ينطبق على القصبات، وقصور القواد، التي تضررت في منطقة الحوز، والتي يعود تاريخ بناء معظمها إلى ما قبل العمليات العسكرية الفرنسية لاحتلال المغرب.

وفي منطقة سوس أيضا تضررت بنايات كثيرة تدخل في إطار الذاكرة الجماعية، وتستحق أن تُصان لأنها إرث لا مادي.

لكن أخطر ما أتى على منطقة الحوز وتارودانت، ويُهدد إرثها الثقافي، قبل الزلزال بسنوات طويلة، يتعلق بالتاريخ الشفهي للمنطقة.

بعض المناطق التي لا يتحدث سكانها سوى الأمازيغية، تحفظ تاريخها كاملا في عقول شيوخها الذين يحفظون الأشعار والأمثلة والوقائع التاريخية. وبرحيل هؤلاء، يتعرض سنويا جزء كبير من الذاكرة الجماعية للمغاربة للتلف. خصوصا في غياب حماس جمع الشهادات وتوثيقها، اللهم محاولات بعض الباحثين المتفرقة، والتي ما زالت في حاجة إلى مزيد من العناية.

لحسن حظنا في المغرب، أن رجلا أمريكيا اسمه C.E Andrews، قد زار المغرب وألف كتابا مهما سنة 1914، عن تاريخ منطقة سوس.

هذا الكتاب الذي يحمل عنوان: «Old Morocco and the Forbidden ATLAS»، أي «المغرب القديم وجبال الأطلس المُحرمة». هذا التحريم الذي تحدث عنه الكاتب الأمريكي، لا يتعلق بالتحريم الديني، وإنما بـ«الحرام الجغرافي»، بحكم أن منطقة سوس في ذلك التاريخ كان دخولها ممنوعا على الأجانب.

لكن السيد «أندروز» تمكن من التجول في منطقة سوس كلها، من أكادير ومراكش وصولا إلى سهل سوس في تارودانت، حيث زار مناطق كثيرة في هذا الإقليم الشاسع، بمعية كتيبة عسكرية فرنسية من الفرق العسكرية التي قادت الحملات الاستعمارية في جنوب المغرب، بمساعدة من المدني الگلاوي.

كان هذا الأمريكي يتحدث الفرنسية بطلاقة، وهو ما ساعده كثيرا على التواصل مع الضباط الفرنسيين الذين كانوا يعملون تحت إمرة الحاكم العسكري، وزار معهم الأسواق الأسبوعية والقرى التي وصل إليها الجيش الفرنسي.

بذل هذا الباحث الأمريكي مجهودا جبارا جدا، واستطاع تدوين مئات الحكم والأغاني الأمازيغية في مختلف مناطق سوس، باللغة الأمازيغية. حيث يتولى العسكريون الفرنسيون ترجمة معاني الأغاني من الأمازيغية إلى الفرنسية، ثم يتولى هو نقلها إلى كتابه باللغة الإنجليزية.

ورغم أن هذه الأشعار والأغاني جرى ترجمتها إلى ثلاث لغات، إلا أن طريقة نقله لمضمونها لم تفقدها قوتها.

سبق وأن خصصنا في «الأخبار» ملفا متكاملا قدمنا فيه ترجمة حصرية إلى العربية، لأقوى مضامين هذا الكتاب. ورغم ألغام «الترجمة» وتحدياتها، إلا أننا هنا نحاول نقل بعض ما سجله هذا الباحث الأمريكي، وننقله من الإنجليزية إلى اللغة العربية.

من أقوى الأشعار التي سجلها في كتابه، والتي سمع أحد المتجولين في أسواق إقليم تارودانت الأسبوعية يرددها وهو يضرب الطبل، ويمر بمحاذاة الجنود الفرنسيين الذين كانوا يتجولون بدورهم في السوق:

«هؤلاء النصارى..

أخذوا مني حياتي

أخذوا مني كل الذين أحببتهم

لقد وفرت الحناء.. وصنعت الكحل

والمرأة التي أردتها أن تستعملهما لم تعد موجودة».

كلمات أخرى أكثر قوة، نسبها «أندروز» إلى مُغن أمازيغي كان يحظى بشعبية كبيرة جدا سنة 1914، جاء فيها:

«كل المشاكل سببها إما الاستعمار أو الزوجة السيئة..

هذه الأخيرة يمكن أن ترتاح منها بإضرام النار فوق جثتها.

أما الاستعمار.. فمشكلة عويصة».

لقد عرت واقعة الزلزال فعلا مشكلا عويصا يتعلق بالنظرة الاستعمارية، التي ما زالت فرنسا تنظر بها إلينا.

ونختم هنا بكلمات قوية من أغنية انقرضت، بحكم أنها كانت تحظى بشعبية كبيرة، قبل أن يظهر التسجيل في الأشرطة الممغنطة. ولولا السيد «أندروز» لما وصلنا منها أي شيء، وهذا هو الانقراض الحقيقي للثقافة. تقول الأغنية:

«أصحاب العيون الزرقاء أصبحوا في كل مكان..

كيف سيأتي الخير من وراء زُرقة البحر؟

محال أن نجد خبزا للأيام المقبلة».

رغم أن هذه الترجمة، أو الاجتهاد، قد يُفقد بعض كلمات الأغنية قوتها الأمازيغية، بحكم أننا نقلناها من الإنجليزية وليس من لغتها الأصلية، إلا أنها على الأقل تبقى محاولة فريدة في التوثيق، تُعلمنا أن هناك ما هو أخطر على الإنسان من الزلازل، إنه إهمال الذاكرة الجماعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى