هل يفسر ماضي تركيا حاضرها؟
مدى الفاتح
مثّل إسقاط الدولة العثمانية أو إخراجها من دائرة الفعل العالمي، في فترة ما قبل القرن العشرين، هدفا استراتيجيا للقوى الإمبريالية حينها. هذا الهدف لم يكن خافيا على القيادات العثمانية التي كانت تحاول أن تتقي هذا الشر بقدر الإمكان، عبر الدخول في تحالفات متشابكة أو عبر التقرب إلى بعض الأوربيين، طمعا في أن يمنحوها الحماية الكافية في حالة انقض عليهم أوربيون آخرون.
بنهاية القرن التاسع عشر أصبح الوضع في بعض الوجوه مشابها لصورته المعاصرة، فقد كانت تركيا العثمانية، التي لم تلبث أن سميت برجل أوربا المريض، شريكة لأوربا ومنافسة لها في الوقت ذاته. بمعنى أنها كانت تمثل ثقلا لا ينكر وشريكا مهما، لكن بشكل يصعب إغفاله، كانت منافسا خطرا يجري العمل على تحطيمه وكسر شوكته حتى لا يتمدد أكثر أو يصل مرحلة التهديد.
يقول المدافعون عن السلطان الأخير، عبد الحميد الثاني، إزاء الاتهامات التي طالته بغياب الرؤية والرضوخ للأعداء، ما يكفيه فخرا أنه أخّر سقوط الدولة لما يقارب الثلاثين سنة شكلت فترة حكمه. بمعنى أن السلطنة التي وصلت حالة غير مسبوقة من الضعف، كانت مهددة أصلا بالفناء حينما استلم السلطان مقاليدها.
النقطة الرئيسة هي أنه، ورغم حالة الضعف هذه، فإن المتآمرين لم يواجهوا الدولة العثمانية مواجهة مباشرة، وإنما استعاضوا عن ذلك بالحيلة والمكر وتدابير المؤامرة، وهو ما ظهر من خلال جر العثمانيين للرضوخ لما يعرف بـ«معاهدة سيفر» عام 1920، مستفيدين من هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى. نقلت هذه المعاهدة تركيا من إمبراطورية ممتدة وشاسعة إلى دولة وطنية متقزمة، يساهم أعداؤها في وضع حدودها وتحديد وظائفها.
يعبر المؤرخون عن الصدمة الشعبية جراء هذه المعاهدة بتعبير «متلازمة سيفر»، الذي سوف يستخدم لوصف حالة التشكك التي سوف تلازم السياسيين الأتراك بمختلف توجهاتهم إزاء الآخرين، بمن في ذلك الحلفاء التقليديون أو المجموعات العاملة في الداخل، التي سوف تتهم كذلك بالتواطؤ مع الخارج لتحقيق مصالح قد تتضارب مع المصلحة القومية. التشكيك في الأطراف الداخلية لم ينتج من فراغ، وإنما مما ورثه الأتراك من قصص حول تآمر الأقليات والمجموعات، التي كانت ترى أنها مهمشة، أو أنها لم تلق ما كانت تظن أنه يليق بها من فرص في الثروة أو السلطة. هذا التآمر الذي يكاد يتفق المؤرخون على وقوعه، خاصة حينما يتعلق الأمر بالمثالين الكردي والأرمني، سوف يتسبب في تآكل الدولة العثمانية.
«سيفر» كمتلازمة سيكولوجية قد تنجح في تفسير موقف السلطات التركية المتشدد منذ بدايات العهد الجمهوري الحديث، إزاء قضايا الأكراد وتطلعاتهم، كما قد تكون هذه المتلازمة سببا في سهولة إقناع المواطنين الأتراك بالمؤامرة التي أساسها «كيان موازٍ» أو «دولة عميقة» متجذرة ونافذة، بشكل يجعلها توجه ضربات موجعة معتمدة على كونها غير مرئية، لكن قادرة على الفت في عضد الدولة وعلى تهديد أمنها. بعد سيفر سوف يعود الوطنيون الأتراك الذين كان يمثلهم القائد العسكري كمال أتاتورك للاحتماء بقوميتهم، متخذين منها سلاحا للمقاومة، ومعتبرين أن الخطاب الإسلامي لم يعد مواكبا للظرف التاريخي الذي يعيشونه، خاصة مع فقدهم للكثير من مناطق نفوذهم غير الناطقة بالتركية. ضحايا هذه الروح القومية سيكونون الأقليات التي بقيت في مناطقها التاريخية ضمن حدود العمق التركي، وعلى رأسهم الأكراد الذين سوف يقاتلون خلف الراية التركية في حرب الاستقلال، طمعا في الحصول على كيان ذي خصوصية، ولو داخل إطار الدولة التركية، لكن القيادات الكردية سرعان ما ستتفاجأ براديكالية السلطات الحاكمة الجديدة التي لن تلبث، في إطار تشبثها بالهوية القومية، أن تعتبر أن مجرد إظهار الثقافة الكردية هو نوع من الخيانة.
الارتباط بين المتلازمة السيكولوجية والأداء السياسي لا يقتصر فقط على الحالة التركية، فهناك المثال الألماني وتداعيات ما تعرضت له ألمانيا من هزيمة وضعف عقب خسارتها الحرب العالمية، ما حوّلها، بعد أن كانت قوة ترغب في السيطرة على العالم، إلى بلد بانتظار أن يمد إليه الآخرون أياديهم ليساعدوه في إعادة الإعمار. هناك أيضا مثال الإمبراطورية المجرية الذي يشبه لحد كبير ما حدث للأتراك عبر سيفر وتداعياتها، حيث فقدت المجر جزءا كبيرا من مساحتها ومناطق نفوذها، حينما أجبرت على توقيع «معاهدة تريانون» في الرابع من يونيو 1920 عقابا لها على مشاركتها في الحرب العالمية الأولى، ولا يزال القوميون المجر حتى اليوم يذكرون بأسى ذلك التاريخ وتلك المعاهدة التي تسببت في تبخر أحلامهم.
بالنسبة لكثير من الدارسين فإن معاهدة سيفر ثم ما تلاها من تفاهمات بين حكومة أنقرة، التي كانت منافسة لحكومة إسطنبول وقيادات أوربية ضمن ما يعرف بمعاهدة لوزان التي وقعت في يوليو 1923 وما كان قبلهما مما عرف باتفاق سايكس-بيكو، كل ذلك مثل قمة جبل التآمر الغربي على الدولة العثمانية. في جميع هذه المراحل بدا الأوربيون عازمين على إعادة رسم حدود عدوهم العثماني اللدود عبر إعادة تقسيم الأراضي والبلدان وتوزيع نفوذهم عليهما، خاصة تلك الأراضي الواقعة ضمن الإقليم الجديد، الشرق الأوسط.
في ظل هذه الظروف نشأ أيضا التباين السياسي بين رؤية إسطنبول ورؤية أنقرة، ففي حين بدت الأخيرة مهزومة ومترددة، بعد أن رضخت لاتفاق سيفر، كانت الثانية تبدو بصورة أكثر عنفوانا وهي ترفض هذا المصير بادئة ما يعرف بحرب الاستقلال، التي ستلمع فيها صورة البطل الحداثي كمال أتاتورك، على حساب صورة دراويش إسطنبول، الذين بدأت الأمور تخرج عن سيطرتهم.
استطاع الكماليون فرض أنفسهم كمتحدثين باسم الشعب التركي، وساعدهم في ذلك الاعتراف الذي حظوا به من قبل الأوربيين، ما أهلهم لكسب شرعية التفاوض في معاهدة لوزان للسلام، التي شكلت ما هو أشبه بمفاوضات لتشكيل الوضع النهائي، خاصة في ما يتعلق بالحدود مع سوريا واليونان وإيران، ووضع جزر المتوسط، وإن كانت بعض هذه الحدود لا تزال محل جدل وتنازع ينتظر الحسم. هكذا يمكن القول إن «سيفر» لم تكن مجرد معاهدة دولية، فبخلاف ما نتج عنها من تداعيات سياسية خارجية، كان لهذه التفاهمات والطريقة التي تمت بها أبلغ الأثر في اللاوعي الجمعي أو ما أطلقت عليه الباحثة في الشأن التركي دوروثي شميد اسم «جنون الارتياب الجماعي»، الذي شكل مخاوف كرس القوميون جهودهم للاستفادة منها، محذرين من سيفر ثانية يتم التحضير لها في الخفاء. سيؤدي كل ذلك لجعل الأمن أولوية مطلقة، ومثلما يحدث في حالات مشابهة سوف تبالغ بعض القوى الداخلية في توظيف خطاب الاستهداف الخارجي هذا في ما يصب في مصلحتها، ما سيوقع البلاد بين يدي العسكريين الذين سوف يسيطرون على مفاصل الدولة. ستعيش تركيا ردحا كبيرا من القرن العشرين كدولة عسكرية شرقية نمطية، تتقلص فيها مساحات الحرية ويتدخل العسكر في تفاصيلها. هذا الوضع لن يبدأ في التغير الجذري إلا بداية هذا القرن مع تصدر حزب العدالة والتنمية للمشهد. لكن هل استطاعت القيادة الجديدة الانفصال عن عقدة سيفر، على الأقل بما ترمز إليه من شكوك في القوى الدولية التي تتآمر بدون توقف على الدولة التركية؟