شوف تشوف

شوف تشوف

هل سنعود إلى الحجر؟

الجميع يتساءل مستغربا حول الحالة الوبائية بمدينة طنجة التي سماها وزير الصحة “ديك المدينة اللي فالشمال”.
وبلغة الأرقام فقد سجلت جهة طنجة 6089 حالة منذ بداية الجائحة، ضمنها 118 وفاة، وهو ما يمثل 23,84 في المائة من العدد الإجمالي الوطني للإصابات.
والواقع أنني عندما رأيت عمداء مدن ورؤساء جماعات بسيطة يستعرضون المستشفيات الميدانية التي أعدوها لمواجهة الجائحة في بدايتها ورأيت رئيس مجلس جماعة مدينة طنجة، والقيادي في حزب العدالة والتنمية، وقد جمع الصحافيين والمصورين والتابعين لتغطية زيارته إلى مركز الطب الشرعي المتواجد بمنطقة الزهراء، حيث استعرض بحماس أمام سكان طنجة المركز الجديد الذي يتضمن 200 تابوت لحمل الموتى، و80 غرفة تبريد لحفظ الجثث، منذ تلك اللحظة شعرت أن شيئًا ما غير طيب سيحدث في طنجة، وها نحن اليوم نرى ما هو.
الناس كانوا ينتظرون أن يستعرض لهم رئيس مجلس جماعة طنجة غرف استقبال المرضى بالمستشفيات وأسرة الإنعاش وأجهزة التنفس ومراكز العزل الطبي وألبسة الطواقم الطبية ومواد التعقيم لكي يشعروا بأنهم في أيد أمينة، فإذا بهم يصدمون وهم يرون السيد الرئيس يستعرض أمامهم التوابيت التي سيضعونهم داخلها وثلاجات حفظ الموتى التي سيضعون داخلها جثثهم عندما ستحصد الجائحة أرواحهم.
من الجيد أن تتوفر المدينة على “احتياطي” كاف من التوابيت وعدد “وفير” من ثلاجات حفظ الموتى، لكن هذه الأشياء لا يجدر إظهارها للناس، فهي ليست إنجازات وإنما أشياء من المفروض توفرها في كل مدينة يحترم فيها مجلسها البلدي والجماعي نفسه.
ما كان يجب أن يظهره المسؤولون عن الشأن المحلي للناس في هذه الأوقات العصيبة، حيث الكل مفزوع وقلق ومتوتر، وهذا شعور عالمي وليس حكرًا على المغاربة، هو الأشياء الإيجابية التي تعطي الناس شحنة من الأمل حتى يشعروا أن مسؤولي مدينتهم وفروا لهم الإمكانيات الضرورية للوقاية والاستشفاء من الفيروس إذا أصابهم.
أما أن تريهم التوابيت وثلاجات حفظ الجثث فليس هذا بالمنجز الذي تستدعي له الصحافة، وكأنك تقول للناس يمكنكم أن تموتوا مرتاحين فقد وفرنا لكم ما يكفي من الصناديق والثلاجات التي ستحفظ جثامينكم من التعفن.
ولعل التصريح الأخير لمنظمة الصحة العالمية الذي يقول إن كورونا سيبقى معنا لفترة طويلة يضعنا أمام حتمية الجواب عن السؤال الأكثر أهمية اليوم، والذي يجب أن يجيب عنه صانع السياسات العمومية ومدبرو الشأن العام، وهو هل يجب أن نضحي بالاقتصاد من أجل الصحة أو بالصحة من أجل الاقتصاد؟
الجواب الأقرب إلى الصواب هو أننا يمكن أن لا نضحي لا بالاقتصاد ولا بالصحة ولا بهما معًا، وأنه يمكننا أن نمشي في طريق ثالث بينهما، أي أن لا نخنق الاقتصاد بتوقيف عجلاته وأن لا نهدد صحة المواطنين بالسماح لهم بالخروج إلى الشارع حيث يتربص بهم الفيروس في كل مكان.
الحل الأكثر عقلانية هو فتح الاقتصاد مع فرض تطبيق شروط الوقاية الصحية بقوة القانون. وضع الكمامة يجب أن يكون إلزاميًا مع زجر ومعاقبة مخالفي هذا القرار. وهذا يتطلب تنزيلا إجرائيا صارما وملموسا في كل الفضاءات العامة ووسائل النقل العمومية.
كل دول العالم اليوم متفقة على أن الدخول في حجر صحي شامل جديد يعني إدخال الاقتصاد العالمي إلى غرفة الإنعاش التي لا أحد يعرف متى سيخرج منها وبأية أعطاب سيخرج. فالموجة الأولى من الجائحة وما رافقها من حجر صحي تسببا في ركود الاقتصاد الأمريكي الذي يقود العالم، وتسببا في ركود الاقتصاد الألماني الذي يقود أوروبا، ولذلك نرى كيف أن فكرة العودة إلى الحجر الشامل أصبحت مرفوضة على المستوى الشعبي في أوروبا حيث خرج الناس في ألمانيا وإنجلترا للاحتحاج على التدابير التي فرضتها الحكومة.
لذلك فكل الحكومات تضع السيناريوهات وتجتهد في البحث عن حلول مبتكرة خارج الحل القروسطوي الذي هو الحجر الصحي الشامل.
ونحن في المغرب علينا أيضا الاجتهاد في البحث عن حلول خارج الإغلاق والإقفال لأن هذه الحلول سهلة ولا تتطلب اجتهادا كبيرا. فمن السهل أن تغلق مدينة حفاظًا على صحة المواطنين لكن من الصعب أن تفتحها وتحافظ على صحة وخبز المواطنين في الآن نفسه، لأن هذا هو التحدي المطروح عالميًا اليوم: كيف نحافظ على الصحة العامة ووظائف المواطنين، أي في النهاية على خبزهم اليومي؟
هناك مقولة شهيرة للرئيس البوسني السابق علي عزت بيجوفتش يقول فيها “عندما تكون في السجن تكون لك أمنية واحدة: الحرية. وعندما تمرض في السجن لا تفكر بالحرية، وإنما بالصحة… الصحة إذن تسبق الحرية”.
الصين هزمت كورونا بفضل الذكاء الصناعي وخوارزمياته المعقدة، أي بتحكمها في أدق المعلومات الخاصة بمواطنيها وتحركاتهم والقدرة على تحليلها بسرعة واستغلالها لحمايتهم وحماية الصحة العامة بإجبارهم على تطبيق تعليمات الوقاية والسلامة.
هناك من سيقول إن هذا النظام الذي وضعه الحزب الشيوعي الصيني يلغي الفردانية والحرية الشخصية ويجعل الدولة تتلصص على مواطنيها وتحصي أنفاسهم، وبالتالي فليس هذا النظام صالحا للتقليد.
الجواب بسيط، هذا النموذج لن يكون اختياريًا بل سيكون الحل الوحيد أمام الجميع لمواجهة تحدي عصر حروب الفيروسات الذي انطلق ولا يبدو أنه سينتهي عما قريب. فإما أن الدول ستتوفر على المعلومات الضرورية والذكاء الصناعي لحماية صحة مواطنيها ضد الفيروسات، وإما أنها ستستمر في مواجهة الفيروسات بالوسائل الحمائية التقليدية والتي ثبت عدم فعاليتها في أوروبا وأمريكا.
لذلك فمقولة علي عزت تظل أكثر راهنية اليوم من أي وقت مضى، فما نجح فيه هذا الفيروس في الحقيقة هو أنه سيحرم شعوب العالم بأسره من الحرية، أما الصحة فيمكن أن يتفاوض ويتنازل لهم عليها، ولعل هذا انتصاره الأكبر، ولعلها أيضا هزيمتنا الكبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى