هكذا سيصبح المغرب قبلة العلم وحامل مشعل الاعتدال بإفريقيا
النعمان اليعلاوي
قبل يومين، وبالتحديد بالتزامن مع احتفالات ليلة القدر التي تم إحياؤها بالدار البيضاء، ترأس الملك محمد السادس، الذي كان مرفوقا بولي العهد الأمير مولاي الحسن والأمير مولاي رشيد والأمير مولاي إسماعيل، بالقصر الملكي بالعاصمة الاقتصادية، حفل إحداث مؤسسة أريد لها أن تكون قطب المغرب وملتقى للعلماء المغاربة مع نظرائهم من باقي دول إفريقيا جنوب الصحراء. الأمر يتعلق بمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، التي تم إحداثها بموجب ظهير ملكي يحدد اختصاصاتها وتشكيلتها والأدوار المنوطة بها، بالإضافة إلى علاقتها بباقي المؤسسات الدينية بالمغرب.
لقد كان للمغرب حضور قوي في الحقل الديني لعدد من الدول الإفريقية، بل إن مدنا تاريخية مغربية كمراكش وفاس ومكناس كانت مراكز علم وحواضر تشد لها رحال علماء الأمصار الإفريقية، وكانت لغالبية الزوايا الصوفية في المغرب امتدادات في العمق الإفريقي، حيث كانت مواسم هذه الزوايا ولا تزال (الزاوية التيجانية، والزاوية البوتشيشية…) أشبه بملتقيات إقليمية يجتمع فيها مريدو تلك الطرائق من المغرب ومن عدد من الدول الإفريقية من موريتانيا مرورا بالنيجر والسينغال ومالي، في حلقات ذكر ومحاضرات علمية تجمع علماء المغرب بعلماء إفريقيا.
وإحياء لهذا الدور الذي لم يفتر يوما، بل من أجل إعطائه طابعا أكثر قوة، أطلق المغرب عدة مبادرات بأوامر ملكية كانت أقواها تكوين أفواج من الأئمة والمرشدين الأفارقة بمعاهد بالمغرب، شأنهم في ذلك شأن الأئمة المغاربة، وتأتي مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة لتتوج المكانة التي يحتلها المغرب كحجر الزاوية في الفضاء الفقهي والديني للدول الإفريقية جنوب الصحراء.
أهداف كبرى وعلاقات عميقة
نص الظهير الملكي رقم 1.15.75 الصادر في السابع من رمضان الجاري الموافق 24 يونيو الماضي على أن إنشاء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، جاء وعيا بأهمية الروابط الدينية والتاريخية والثقافية التي تجمع المغرب بإفريقيا، باعتباره جزءا لا يتجزأ منها، وسعيا إلى توحيد جهود علماء المغرب وباقي الدول الإفريقية لخدمة مصالح الدين الإسلامي، وفي مقدمتها التعريف بقيمه السمحة ونشرها، وتشجيع الأبحاث والدراسات في مجال الفكر والثقافة الإسلامية، حسب الأهداف العامة التي سطرها الظهير الملكي للمؤسسة. هذا الأخير أوضح أنها أيضا جاءت رغبة في المحافظة على وحدة الدين الإسلامي، ولصد التيارات الفكرية والعقدية المتطرفة، وفتح فرص لتبادل الآراء بين علماء القارة.
وفي تفصيل أهداف المؤسسة، أورد الظهير المحدث لها أنها ستشرف على القيام بمبادرات في إطار كل ما من شأنه تفعيل قيم الدين السمحة في كل إصلاح تتوقف عليه عملية التنمية في إفريقيا، سواء على مستوى القارة، أو على صعيد كل بلد، بالإضافة إلى تنشيط الحركة الفكرية والعلمية والثقافية في المجال الإسلامي، وأيضا لتوطيد العلاقات التاريخية التي تجمع المغرب وباقي دول إفريقيا والعمل على تطويرها.
في هذا السياق، قال حسين حسن أبابكر، رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بجمهورية تشاد، إن مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة ستحيي الروابط بين علماء إفريقيا وتحافظ على القواسم والثوابت الدينية المشتركة، مضيفا في تصريح إعلامي أنها جاءت في الوقت المناسب لتحيي الروابط بين علماء إفريقيا، وتصبح منبر تجمع لعلماء وعالمات إفريقيا لأول مرة في تاريخ القارة وفي العالم. وأوضح حسن أبابكر أنه لا يوجد مؤتمر أو تجمع يجمع بين العلماء والعالمات، إلا هذا التجمع الفريد من نوعه.
وقد اعتبر رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بجمهورية تشاد أن إحداث هذه المؤسسة مرحب به لدى العلماء الأفارقة، إذ «ستكون بإذن الله سببا لتعاون علماء إفريقيا وتعارف أبناء إفريقيا، وتكون سببا للحفاظ على الموروث والحفاظ على الثوابت الإفريقية»، مبرزا أن هذه القواسم الدينية المشتركة تتمثل في المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف الإسلامي بكل مشاربه.
روابط تاريخية.. لتعزيز الوسطية
تعتبر التجربة الدينية للمغرب، والتي ترتكز على أسس المذهب المالكي والوسطية، قيمة شاركتها المملكة مع العديد من الدول الإفريقية جنوب الصحراء، بل إن القوافل التجارية التي كانت تعبر المغرب محملة نحو أوربا، قادمة من العمق الإفريقي، حملت نسمات صوفية طبعت الزوايا الدينية منذ بزوغ فجر الإسلام على سماء القارة السمراء، حيث كان المغرب محضنا للحواضر الدينية والمؤسسات التعليمية العتيقة، ومنه أشرق النور على باقي الدول جنوبا نحو العمق الإفريقي، وشمالا نحو الجنوب الأوربي.
وحفاظا على هذا الدور، كانت الزوايا الصوفية على مر الأعوام مؤسسات نقلت رسالة الإسلام المعتدل ومبادئه السمحة إلى دول الجوار، وكانت الأطر الدينية والعلمية تجد في جامعة القرويين وفي معتكفات الزوايا ملاذا آمنا للتزود بالعلم والتفقه في الدين قبل العودة إلى الوطن الأم نقلا للعلم والمعرفة، فبني الأساس الديني لدى تلك الدول الإفريقية التي اعتبرت المغرب الأصل والمنبع وبلاد العلم والأولياء الصالحين.
وبين المربي والمريد والشيخ والمتعلم والفقيه والطالب.. حظي المغرب بتلك المكانة التي عززها علماء جدوا في نقل العلم والبزوغ فيه، وتعلم على أيديهم في اللغة والفقه والأصول من صاروا شيوخا لقبائل وقرى هي أشبه بمدن لمئات السكان في البلدان الإفريقية، ليصير الاعتدال والوسطية مبدءا ومنهجا لقبائل عدة والتصوف نهجا ومسلكا بعيدا عن التطرف والغلو، الذي اشتدت وطأته على العديد من تلك الدول في السنين الأخيرة، واشتدت معه الحاجة إلى توحيد كلمة العلماء في تلك البلدان وتعزيز المبادرات التي تهدئ النفوس وتوضح الملبوس.
ويرى محمد الناصر آدم، وهو عالم دين من نيجيريا، أن علماء إفريقيا خاصة والمسلمين عامة في أمس الحاجة في الظروف الراهنة إلى تأسيس مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، مضيفا في تصريح صحفي أن هذه المؤسسة ستحمل عبء الحفاظ على مصالح الأمة الإسلامية، وأن هذه المبادرة الكريمة بتأسيس هذه المؤسسة هي نتاج الفكر الثاقب لصاحب الجلالة الملك محمد السادس «ولا شك أنها رؤية في محلها»، يضيف العالم ذاته.
مرجعية موحدة لبلدان مختلفة
يرى عبد العزيز محمد مايغا، مدير عام دار الحج في جمهورية مالي، وعضو مجلس علماء وكتاب شمال مالي، أن مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، ستشكل مرجعية موحدة للعلماء الأفارقة وستسهم في توحيد جهود العلماء في القارة، مبرزا أهمية هذا الصرح الديني، والتي تكمن في كونه جسرا للتواصل بين علماء المغرب وعلماء الدول الأخرى، وسيكون مرجعية موحدة للعلماء الأفارقة تساهم في توحيد جهودهم في مجال تدبير الشأن الديني.
وأضاف المسؤول المالي: «سنسعى من خلال هذه المؤسسة إلى توطيد الروابط التاريخية والثقافية والحضارية، التي هي قواسم مشتركة بين الدول الإفريقية»، وهي الروابط التي لا يمكن إغفال أهميتها في ظل حدود غير قارة بين العديد من البلدان الإفريقية، في ظل تنامي الضغائن القبلية والعرقية التي تشعل شرارات بين بلدان إفريقية، أو وسط البلدان نفسها.
الاستقرار والاعتدال.. تحديات أمام العلماء
تواجه مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تحديات كبرى، باتت تشكل تهديدا للاستقرار العقدي والمذهبي والروحي، وذلك بعد انتشار أطماع توسعية إيديولوجية، أو مادية تريد أن تنشر في هذه البلدان فكرا غريبا عنها. وقد اعتبرت المؤسسة في أول بلاغاتها أنه «لا أحد أقدر وأجدر من العلماء على العمل لحماية هذه العقيدة، وهذا الفكر المعتدل السمح، باعتبارهم الحماة لتراث بلدانهم»، وأيضا «المستهدفون بالغزو والتطرف بالدرجة الأولى»، مبرزة «أن مهمتهم بحسب ثوابت أمتهم تتطلب منهم اليقظة التامة والمبادرات الملائمة لخدمة قضايا الأمن الروحي والتنمية»، وبالتالي فالمؤسسة وسيلة «لتكون إطارا مؤسساتيا يضطلع فيه العلماء بمسؤولية أداء واجبهم والقيام بأمانتهم، سيما وأن ما يهم بلدا إفريقيا في مجال فكرة السلم والبناء يهم بلدان إفريقيا بأسرها».
نموذج مغربي بتطلع إفريقي
إلى جانب السياق الطبيعي، فإن عنصرا آخر يوضح طبيعة دور مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، والذي يتمثل في الممارسة المغربية بقيادة إمارة المؤمنين لتدبير الشأن الديني، في توافق بين الثوابت الدينية والثقافية الأصيلة، وبين الاختيارات الحديثة في مجال التنمية والحرية والحقوق وضمان قيم المواطنة، وهو النموذج الذي صدر تنويه به من جهات إفريقية علمية وسياسية، ما يدل على تقديره والتشوف إليه، لا سيما بالنظر إلى التراث الديني والفكري والحضاري المشترك.
المؤسسة التي ستعمل على ربط جسور التواصل والتقارب بين العلماء المغاربة ونظرائهم الأفارقة لا محالة ستشكل فضاء خصبا للتداول أكثر حول التجربة المغربية في تأطير الحقل الديني، خصوصا أن الرئيس المنتدب للمؤسسة ليس سوى أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، لتكون المؤسسة على مقربة كبيرة من الوزارة المنوطة بتدبير الحقل الديني بالمغرب وبالتالي بهذه التجربة المغربية، خصوصا في ما يرتبط بالمؤسسة المركزية والتي هي إمارة المؤمنين ومؤسسة المساجد والأوقاف التي ستكون مفتوحة على إطلاع العلماء الأفارقة الذين ينظرون بعين الإعجاب للنموذج المغربي المستقر.