هكذا جمعت شعوب قديمة بين الحضارة والكهانة
ثمة شعوب سبقت اليونان إلى الحضارة، وسبقتها أيضا إلى الكهانة. ولذلك يرى هيرودوت – في تاريخه – أن التنبؤ اليوناني أصله مصري. ويقول المسعودي: «ولا أمة خلت، إلا وقد كان فيها كهانة».
إن التكهن ظاهرة موغلة في القدم، بل حتى الأقدمون كانوا يعتقدون بأن الكهانة تضرب بجذورها في أعماق الماضي السحيق. فهذا شيشرون – الذي عاش قبل أكثر من ألفي عام- يقول: إن الاعتقاد في التنبؤ والكهانة اعتقاد قديم جدا، فمن الشواهد على ذلك الأشوريون الذين لاحظوا حركات الكواكب، وتكهنوا بناء عليها. وقد استفاد منهم الكلدانيون. وكذلك فإن المصريين وسكان أقاليم واسعة من آسيا آمنوا بهذا التنبؤ ومارسوه. ويقول أيضا : «قد كان يندر أن يقدم أهل العصور القديمة على أمر ذي خطر – ولو اتصل بشؤونهم الخاصة – دون أن يستشيروا الطير، ليعرفوا إن كان سانحا أو بارحا».
في بلاد ما بين النهرين – منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد -، كان رئيس الجماعة إين En – في البداية – يقوم بدور الملك والكاهن معا، ويسكن في جناح خاص في المعبد. لكن الملك سرعان ما عهد إلى كهنة مختصين ببعض الواجبات الخاصة تحت إشراف رئيس لهم. وكان لبعض المعابد مجموعة من الكاهنات أو الراهبات يعشن في أديرة، وبالمعابد – أيضا – هيئة إدارية كبيرة من الكتبة وأمناء المخازن والحراس. وكانت الآلهة تحتاج إلى مؤن منتظمة، أفضلها القرابين، فيصب الدم أولا في فناجين، ثم تختار الأجزاء الممتازة كالرئتين والكبد لمعرفة الطالع. وكانت هذه الطريقة هي المستخدمة أكثر من غيرها عندما تكون الدولة على وشك إصدار قرارات خاصة كالاتفاقيات مع دول أخرى، أو شن الحرب…
هذا باختصار شديد ما كانت عليه بلاد الآشوريين والسومريين. أما في الصين فيكفي أن نعرف – لكي ندرك عمق الاعتقاد في الكهانة وكثرة ممارستها- أن هستون تسو (العضو الثالث في ثالوث الآباء المؤسسين للكونفوشية 312- 238 قبل الميلاد)، وهو فيلسوف عقلاني، عرض الكهانة عرضا عقلانيا، وهو وإن أدان بعض الممارسات الدينية معتبرا إياها من الخرافات، مثل طرد المرض بالتعاويذ وقراءة حظ المرء من ملامح وجهه…إلا أنه أباح التنبؤ بالغيب، شريطة أن يكون عقلانيا، أي فنا له قواعد، كالتنجيم ودراسة البرق.
وفي الصين يعتبر كتاب «كنج»، أي التغيرات، تجميعا متأخرا وتنظيما فكريا للكتب القديمة التي موضوعها الكهانة والتنبؤ.
وفي روما القديمة كان الكهنة رؤساء للدين وسادة للمعابد، وكان للكاهن الأكبر – أو الحبر الأعظم – دور هام في الحياة العامة، حتى إن قيصر فضل أن يتولى بنفسه هذا المنصب. وكانت أعظم طوائف الكهنة نفوذا جماعة العرافين التسعة، الذين يدرسون إرادة الآلهة ومقاصدهم بمعرفة اتجاه الطير أثناء تحليقه.
الكهانة ومعابد النبوءة عند اليونان
لم يكن الإغريق بدعا بين الحضارات الإنسانية في ما يخص الاعتقاد في الكهانة والرجوع إلى الكهان واعتبار ذلك دينا أو أهم ما في ديانتهم، بل – على العكس – حاول اليونان فلسفة هذه الظاهرة وتفسيرها، حتى إن المكتبة اليونانية القديمة تتوفر على عدد لا بأس به من الكتب الخاصة بالكهانة والتنبؤ، وإن كان أكثرها يعتبر اليوم مفقودا.
في المرحلة القديمة – archaïque – كان في اليونان كهنة يقرؤون المستقبل من تحليق الطير، ويفسرون الأحلام ويدعون الكشف ورؤية الحقائق.
ثم انتشرت الكهانة في البلاد حتى عرفت أسر وعشائر كاملة بممارستها وإتقانها. يقول شيشرون، – على لسان أخيه كونتوس – : «وقد نجد أسرا وقبائل كاملة يقف أبناؤها حياتهم على مزاولة هذا الفن، فمن ذلك أن مدينة تلمسوس في كاريا قد ذاع عن أهلها أن فن العرافة أصيل فيهم. وفي مدينة أليس في بلوبونيسوس توجد أسرتان قد تسامع الناس زمانا طويلا بشهرتهما في هذا الفن، وهذا هو السبب الذي من أجله كان مجلس الشيوخ حكيما عندما قرر، وهو في أوج قوته أيام أجدادنا أن يسلم ستة من أبناء البارزين من رجالنا إلى كل قبيلة من القبائل في أتروريا لدراسة التكهن بالغيب، مخافة أن ينتهي الأمر بهذه المهنة الجليلة إلى أن تفقد جلالها الديني بمرور الزمان، وتتحول إلى وسيلة للارتزاق».
وكما اشتهرت بالكهانة عائلات وقبائل، فإن مدنا يونانية عرفت بدورها بهذا الأمر، وذلك في الغالب بسبب توفرها على معابد خاصة بالاستشارة المتعلقة بكل غيب مستور. ومن هذه المعابد: معبد سليسي، ومعبد أنتيوش، ومعبد ديديم، ومعبد دودونا… وكانت هذه المعابد – وأمثالها – مقدسة عند اليونان الذين كانوا يشاورونها في كل شاذة أو فاذة نزلت بهم، حتى قال شيشرون: «أية هجرة قام بها الإغريق … قبل أن يستشيروا الكاهنة «بيثيا»، أو يتلقوا الوحي من دودونا أو «جوبتر أمون»؟ أو أية حرب خاض الإغريق غمارها قبل أن يلتمسوا نصيحة الآلهة أولا؟».
لكن من بين كل معابد العالم اليوناني فإن أهمها هي معابد الإله أبولو: سليسي، وأنتيوش، وديديم، ودلفي…فلا صوت كان يعلو على صوته. ثم إن أهم معابد أبولو هو – بلا جدال- معبد دلفي، الذي صارت له هذه الريادة منذ القرن السابع قبل الميلاد، وفي كل العالم اليوناني.
ودلفي مدينة شاطئية صغيرة، بني فيها هذا المعبد الشهير، والذي كانت تزوره أفواج وأفواج من الإغريق. ولا نعرف بالضبط كيف تحول هذا المعبد إلى وظيفة التنبؤ. وغير هذا، فإن دلفي لم تكن تختلف عن باقي مدن أو قرى اليونان.
أسطورة نشأة معبد دلفي
الأسطورة اليونانية هي إنجيل اللاوعي الغربي. وهي تفسر أشياء كثيرة، منها كيف نشأت دلفي. ففي زمن غابر أرسل الإله زوس عقابين، كل واحد من أقصى طرف في الأرض، وذلك ليحددا مركز الأرض، فالتقى العقابان – بعد تجوالهما- في مكان يسمى بيتو، وهو الاسم القديم لدلفي. ثم يحكي لنا فلوطرخس أسطورة أخرى، مكملة للأولى: ففي عهد غير معروف سقط أحد الرعاة بالصدفة في حفرة – بني عليها في ما بعد معبد دلفي-، وفجأة بدأ يتلفظ بكلمات ألهمها حول المستقبل. في البداية سخر منه الناس، ولكن بعد ذلك لما لاحظوا تحقق نبوءاته عرفوا أنها هبة سماوية. ويقول أعلم الناس في دلفي إن اسم هذا الراعي لا يزال محفوظا، فهو كوريتاس. وإنما أصبح الراعي متنبئا، لأنه كانت تنبعث من الحفرة أبخرة مقدسة، هي التي وهبت له هذه القدرة على كشف المستقبل.
لقد اعتقد اليونان أن التنبؤ بالمجهول أمر جليل ليس في متناول البشر، بل هو شأن الآلهة فقط. ثم تصوروا ثلاثة منها اختصت بمعرفة المغيب وكشفه لمن تريد من الناس، وهي: زوس، وأبولو، وديونيزوس. والأولان بالخصوص هما اللذان يعلمان الإنسان المستقبل ويخبرانه عما يريدان منه فعله.
وأشهر المعابد التي يتوجه فيها إلى زوس، معبد دودونا. أما ديونيزوس فهو إله تنبؤ – من الدرجة الثانية – يعطي النبوءات في أشهر الشتاء خاصة. ويبقى أن أهم الآلهة التي تكشف لليونان كل مجهول هو أبولو.
أبولو:
نعود مرة أخرى إلى الأسطورة: أبولو هو ابن الإله الكبير زوس، وهو يتحول أحيانا إلى سمك الدلفين.
اختار أبولو المقام بدلفي، ولكنه واجه مقاومة من تنين «dragon» يدعى «بيتون» كان يحتفظ في الجبل بمعبد «تيميس»، وكان سيئ السيرة. وفي النهاية استطاع أبولو أن يقتله، فسيطر على المعبد وجعله خاصا به وبتبليغ أجوبته للناس. وفي كل سنة يحتفل سكان دلفي بعودة أبولو إلى مدينتهم، ويخصصون له أيضا احتفالا رياضيا يسمى بـ«الألعاب البرزخية» أو ألعاب المضيق، وهي على غرار الألعاب الأولمبية الموضوعة لتمجيد زوس.
وأبولو إله متعدد الوظائف، فهو يكشف الغيب، ويعالج المرضى، وهو أيضا حامي الموسيقى والشعر والشعراء.
وقد اشتهر معبد أبولو بنبوءاته، حتى جذب الزائرين والحجيج من خارج العالم اليوناني، بما في ذلك أطرافا من آسيا وإفريقيا.
الكاهنة «بيثيا»:
البيثيا امرأة تختار من فتيات منطقة دلفي، يخصص لها سكن في المعبد، تعيش فيه أبدا، وتحافظ على طهارتها وعذريتها. ولذلك كان اليونان ينتقونها من بين النساء البدويات الساذجات، أي أنهم كانوا يبحثون عن امرأة «نقية» قلبا وقالبا… فيعزلونها في المعبد ويحرسونها. وأحيانا تكون في المعبد كاهنتان أو ثلاث كاهنات.
يقول فلوطرخس: «نحافظ على البيثيا طاهرة من كل ارتباط جسدي، ومعزولة تماما طيلة حياتها عن كل اتصال أو علاقة مع الأجانب».
وإنما حرص الإغريق على تحقق هذه المواصفات في كاهنة دلفي، لأنهم اعتبروها وسيطا بين الإله أبولو والمستشير من الناس. ولم يكن هذا الإله يلقي بالجواب لفظا إلى الكاهنة، ولكنه ينير عقلها ويلهم قلبها، فتجيب هي بلسانها، وفي اللغة اليونانية. وقد تميز دلفي عن غيره من معابد الكهانة بهذا الأسلوب الذي بمقتضاه يتكلم أبولو بلسان امرأة، والغريب أن اليونان – بالمقابل – كانوا يمنعون على أي امرأة أخرى – غير الكاهنة – ولوج المعبد (وهذه الظاهرة كانت بالخصوص في اليونان القديم).
تتلقى البيثيا هذا الوحي من أبولو في غرفة معزولة، توجد في سراديب تحت الأرض، فيها صنم لأبولو، ومقبرة ديونيزوس، وأشياء أخرى (في معتقدات الإغريق بعض الآلهة تموت، مثل ديونيزوس، الإله – اللغز، وكانوا يحتفلون بموته كل سنة، في طقوس شيطانية ما زالت تثير أسئلة الباحثين).
وليس واضحا تماما لنا حالة الكاهنة حين تلقيها للنبوءة وإلقائها إلى غيرها، وهل تتذكرها – في ما بعد- أم لا. ولكن من المؤكد أنها تكون في حالة غير طبيعية من الاضطراب والإثارة العصبية، مع فقدان للوعي أحيانا، واضطراب عام وارتعاد الجسد أحيانا أخرى. وكان صوتها يتغير، وتعاني من حالة من الوهن الشامل. وهذه الحالة تشبه – كما يقول دودس- ما يحدث للوسيط في حلقات تحضير الأرواح.
وقد عد الإغريق وقوع البيثيا في هذه الحالة غير الطبيعية شرطا ضروريا لإلقائها النبوءة.
تتحول البيثيا إلى هذه الحالة، فتمتلئ بالإله الذي يستخدم أعضاءها الصوتية كأنها أعضاؤه هو، فيجيب عن السؤال.
وقد اختار اليونان لهذه الظاهرة من الإلهام التنبؤي الذي تعرفه المعابد – في شخص البيثيا – اسما خاصا، هو باللاتينية «enthousiasmos»، وفي الفرنسية
«enthousiasme». ولا أعرف له مقابلا في لغتنا، إذ يمكن أن نسميه بـ«هذيان التكهن»، مثلا. لكن يظهر لي أن أقرب الألفاظ في ترجمة هذا المصطلح هو «المس»، وعليه سأسير في المباحث القادمة.
وهذه الحالة الغريبة للكاهنة كانت تسبقها شعائر وطقوس تقوم بها، رفقة الكهنة المعاونين. والظاهر أن الوضع النفسي والعصبي الذي كانت تسقط فيه البيثيا كان أحيانا شديدا وقويا، بحيث لم تكن تتحمله. ويحكي لنا فلوطرخس قصة كاهنة معاصرة له ماتت في إحدى نوبات «تلقي الوحي»، قال:
«تأثر البيثيا يختلف، مرة هكذا، ومرة بطريقة أخرى… وهي تعاني من كثير من الاضطرابات والآلام، التي تحس بها. أما تلك التي لا تشعر بها، فتسيطر على جسدها وتتسرب إلى روحها، فعددها أكبر. وآنذاك – حين تمتلئ بهذه الاضطرابات – من الأفضل لها، وهي مريضة وقلقة، أن لا تنزل إلى هناك (يعني الغرفة حيث ستتلقى النبوءة)، فهذا خير من أن تهب نفـسها للإله، وهي ليست تماما طاهرة كآلة متناغمة ومعدة جيدا…كما نعرف عن وقوع هذا للبيثيا، التي ماتت منذ فترة جد قصيرة. فقد جاء سائلون من بلاد أجنبية، وكانت الأضحية – بحسب الرواية – (أي الحيوان) قد تلقت الرشات الأولى للماء المقدس بلا حركة. لكن بما أن الكهان ضاعفوا من الطلب واستحثوا حركة الحيوان وأكثروا من صب الماء عليه، فقد انتهت الأضحية بالاستجابة، فماذا حدث للبيثيا؟ إنها لم تنزل إلى المكان الخاص بالتنبؤ، إلا برفض ونفور، كما قيل. وبمجرد تلقي أجوبتها الأولى، وتحول صوتها إلى صوت أجش، كان واضحا أنها لم تشف بعد من اضطرابها، وكانت تشبه سفينة تائهة ومعطلة، فكأن الكاهنة امتلأت ببخور خبيثة، تبكم وتخرس. وأخيرا، حين تملكها اضطراب كامل، أسرعت إلى الخروج وصاحت صيحة عظيمة وغريبة، ثم سقطت أرضا، مما دفع ليس بالسائلين فقط إلى الهروب، بل أيضا بالكاهن (أو المتنبئ) نيكوندر، وكذلك مساعدي المعبد الذين كانوا حاضرين. وحين رجعوا إلى الغرفة – بعد لحظات – وأقاموا الكاهنة، كانت قد عادت لوعيها، ولكنها ماتت أياما قليلة بعد ذلك». (وتعني عدم استجابة الحيوان لصب الماء – في منطق الكهانة – أن ظروف طلب الاستشارة غير ملائمة، أي أن أبولو لا يريد أن يجيب. أما امتلاء الكاهنة بالبخور الخبيثة فمعناه أنها حين دخلت إلى الغرفة الخاصة، والمبنية على الحفرة الأسطورية التي ينبعث منها البخار المقدس، فكأن بخارا آخر سيئا – هذه المرة – هو الذي انبعث عوض البخار الجيد الذي يتيح التنبؤ. وكانت العادة أن يخصص للبيثيا كرسي تجلس عليه يقع فوق الحفرة تماما).