بعد السبات العميق، الذي كانت تعيش فيه مجموعة من الدول الإفريقية التي أتاحت لفرنسا غرس أظافرها في هذا الجسد الإفريقي المليء بالثروات الثمينة لأكثر من قرنين، استفاقت مؤخرا معبرة عن غضبها من خلال الانقلابات التي تتالت ضد الحكام الموالين قلبا وقالبا لباريس التي باتت غير مرغوب فيها سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا. فبعد النيجر وبوركينا فاسو ومالي، تلقت فرنسا البطاقة الحمراء من الغابون، الذي كان يمثل شريكا رئيسيا ومقرا أساسيا للشركات الفرنسية المتخصصة في مجال التعدين والطاقة، ما يؤكد أن فرنسا تفقد حصتها من المصالح التي أصبحت مطمع الروس والصينيين.
إعداد: سهيلة التاور
اشتد الغضب الإفريقي الذي تحول إلى رد فعل مباشر غير منمق تجاه فرنسا، حيث قرر قادة الانقلابات الجدد وضع حد للتحكم الفرنسي في جميع المجالات، وأهمها الاقتصادي والعسكري الذي يجتاح القارة، خصوصا في منطقة الساحل، وذلك بالإطاحة بالحكام السابقين والسياسيين ورجال السلطة الموالين لفرنسا .
التنافس الروسي الفرنسي بإفريقيا
يختلف الطرفان في طريقة تعاطيهما مع الدول الإفريقية، ففرنسا رغم معرفتها بدول القارة أكثر من روسيا فإن الأخيرة في عودتها الجديدة إلى هذه المنطقة يبدو أنها حرصت على النفاذ إلى متطلبات النجاح مباشرة. فالثروات الطبيعية الإفريقية وجدت الشركات الروسية مجالا للتعاقد معها على حساب الحلفاء التقليديين، وعبر الشركات التي يملكها مقربون من بوتين وتنشط في عدد كبير من الدول الإفريقية ( السودان، ليبيا، أفريقيا الوسطى، مالي الكونغو الديمقراطية).
كما وقعت شركة «روساتوم» الروسية للطاقة اتفاقات مع 14 دولة إفريقية للتعاون في المجال النووي، الذي يمتد إلى قطاعات الطب والزراعة، ومنها صفقة بـ76 مليار دولار مع دولة جنوب إفريقيا وحدها.
ويعتبر قطاع التسليح والأمن هو المدخل الروسي الرئيس لإفريقيا بسبب الحاجة الملحة إليه في ظل تصاعد التهديدات الأمنية ومخاطر الجماعات المسلحة التي تتكاثر يوما بعد آخر، وحققت روسيا فيه نجاحا كبيرا.
وعمدت روسيا إلى العمل من خلال شركة «فاغنر» التي تتبرأ منها عند الضرورة، ولكنها في الوقت ذاته تنفذ إستراتيجية محكمة من دون أن تتحمل الحكومة الروسية مسؤولية ما ترتكبه من تجاوزات.
لماذا روسيا بدلا من فرنسا؟
اختارت الدول الإفريقية روسيا بدلا من فرنسا لعدم وجود تاريخ استعماري لروسيا في إفريقيا فضلا عن التاريخ الروسي الداعم لثورات التحرر الإفريقية منتصف القرن العشرين الذي وفر لها ميزة تنافسية كبيرة لتوظيف تلك العلاقات، وعدم تدخل روسيا في الشأن الداخلي الإفريقي كما تفعل الدول الغربية. واعتماد روسيا على التعاون بدلا من المساعدات الغربية المشروطة فتظهر بصورة القوة التي تخدم الدول الإفريقية. وكذلك إلغاء روسيا 20 مليار من الديون المستحقة على الدول الإفريقية، وهو ما لا تتجاسر على فعله الدول الغربية إلا تحت اشتراطات محددة وقاسية. بالإضافة إلى الاستجابة الروسية السريعة للحاجات الإفريقية الملحة دون تعقيد، وبالذات في مجالات التسليح والتدريب والاستشارات العسكرية، وبلا تدقيق في موضوع الشفافية.
وقد بدأ التغلغل الروسي في عدد من البلدان الإفريقية أبرزها:
ليبيا
رغم أن روسيا لا تقيم علاقات وطيدة بنفس القدر مع كل من الشرق والغرب الليبي اللذين يتنازعان السلطة في البلاد، إلا أن التواجد الروسي في ليبيا والنفوذ الكبير لها، يشكل عقبة أمام إيجاد حل للأزمة الراهنة في البلاد.
تقيم روسيا علاقات استراتيجية مع اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يسيطر على الشرق، وتمده بالدعم العسكري والسياسي، وظهر ذلك إبان هجوم اللواء المتقاعد على طرابلس في أبريل عام 2019 حيث شاركت قوات «فاغنر» في هذا الهجوم الذي انتهى بالفشل.
وتسيطر «فاغنر» حاليا على مواقع ومعسكرات ومطارات في الشرق الليبي، وتتخذ من وسط البلاد منطلقا لعملياتها في دول إفريقيا.
وتعد ليبيا محطة مهمة بالنسبة لروسيا، إذ تعدّ قاعدة خلفية ولوجستية مهمة لانطلاق عمليات «فاغنر» في بلدان إفريقية.
السودان
بدأ التغلغل الروسي في السودان عن طريق شركة «مروي جولد» المحلية التي تعود ملكيتها إلى شركة «إم إنفست» الروسية، المتخصصة في التعدين، وذلك في أعقاب اتفاق جرى بين الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، عام 2017.
تلا ذلك قدوم قوات «فاغنر» إلى السودان، وتمركزها في أماكن حماية الاستثمارات الروسية، وفي مهمات تدريب للقوات السودانية.
في عام 2018 أيضا، وثقت مجموعة الأبحاث الروسية «CIT» أدلة على أن «فاغنر» ساعدت القوات السودانية في قمع الاحتجاجات العامة في الخرطوم، وهي احتجاجات أدت في النهاية إلى الإطاحة بالبشير بعد بضعة أشهر.
بعد الإطاحة بالبشير، ترسخت علاقة «فاغنر» مع قائد قوات الدعم السريع حميدتي، التي تقود حاليا حربا ونزاعا ضد قوات الجيش التي يقودها رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان.
يكشف تحقيق أجرته شبكة «سي إن إن» في يوليوز 2022 أن القيادة السودانية، منحت روسيا حق الوصول إلى ثروات الذهب في الدولة الواقعة في شرق إفريقيا مقابل الدعم العسكري والسياسي.
مالي
يشير استخدام روسيا لحق النقض من أجل وقف تمديد العقوبات الدولية ضد مالي قبل أيام إلى حجم العلاقات بين البلدين.
وتعهدت روسيا أمام الأمم المتحدة، يوم الاثنين الماضي بمواصلة تقديم «مساعدة شاملة» إلى مالي، التي يوجد بها نحو ألف مقاتل من مجموعة «فاغنر» العسكرية الروسية الخاصة.
واستولى مجلس عسكري في مالي على السلطة بعد انقلاب عام 2021، وفي أعقاب ذلك عقد المجلس شراكة مع مجموعة «فاغنر» الروسية.
ومؤخرا صوت المجلس المؤلف من 15 عضوا لإنهاء مهمة حفظ السلام التي استمرت عشر سنوات في مالي بعد أن طلب المجلس العسكري فجأة من القوة التابعة للأمم المتحدة هناك مغادرة البلاد، وهي خطوة قالت الولايات المتحدة إن مجموعة «فاغنر» تقف وراءها.
وكان المجلس العسكري قد طرد القوات الفرنسية من البلاد، وكرس لقطيعة تامة مع فرنسا التي كانت تسيطر على البلاد، على مدار عقود، وصل بها الحد إلى فرض اللغة الفرنسية لتكون اللغة الرسمية لهذا البلد الذي يعتبر أكثر من 90% من سكانه مسلمين.
إفريقيا الوسطى
بدأ الحضور الروسي في إفريقيا الوسطى في 2017 حين تبرعت روسيا بأسلحة خفيفة للجيش، سرعان ما تحول ذلك إلى وجود أمني فعال، إثر إرسال موسكو 170 من نخبة قوات «فاغنر».
خلال فترة وجيزة سيطر الروس على جميع المهام الأمنية المهمة في إفريقيا الوسطى بما في ذلك حراسة الرئيس فوستين أرشانغ. وفي خطوة تعكس حجم التعاون بين الطرفين، تم تعيين الروسي فاليري زاخاروف، ضابط المخابرات السابق، في منصب مستشار الأمن القومي للرئيس فوستين أرشانغ.
ولم تقف العلاقات عند هذا الحد، بل تطورت أكثر، ففي غشت 2018، وقع البلدان اتفاقية تعاون عسكري وجرى السماح بافتتاح مكتب لتمثيل وزارة الدفاع الروسية في بانغي، وأعلن رئيس إفريقيا الوسطى أن بلاده تدرس السماح بإنشاء قاعدة عسكرية فوق أراضيها، فضلا عن سيطرة روسيا على مناطق واسعة ضمّت مناجم الماس والذهب واليورانيوم.
على إثر ذلك، قامت فرنسا بسحب جزء من طاقمها العسكري وجمدت مساعدتها التي تبلغ عشرة ملايين يورو وعلقت التعاون العسكري الثنائي وسط اتهامات لحكومة فوستان أرشانغ بالتواطؤ مع حملة مناهِضة لفرنسا تقودها روسيا.
النيجر
يعد انقلاب النيجر الذي وقع في يوليوز الماضي أكبر الصفعات التي تلقتها فرنسا في البلد الإفريقي، إذ احتجز المجلس العسكري الجديد الرئيس محمد بازوم، أحد أبرز حلفاء فرنسا، بل وآخر حلفائها الأقوياء في منطقة الساحل الإفريقي، ما جعل الأخيرة تتبنى موقفا معاديا صريحا من الانقلاب، مطالبة بإعادة بازوم إلى منصبه.
الغابون
سقطت الغابون أيضا من قبضة النفوذ الفرنسي بعد أن أعلن عسكريون الأسبوع الماضي عن استيلائهم على السلطة وإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية وحل المؤسسات الحكومة.
وسرعان ما أدانت الحكومة الفرنسية، الانقلاب العسكري في الغابون، مؤكدة أنها «تراقب بانتباه شديد تطورات الوضع، وتؤكد رغبتها في أن يتم احترام نتيجة الانتخابات»، وبينما لم تتضح بعد سياسات المجلس العسكري الجديد في البلاد، إلا أن عزل الرئيس علي بونغو، الحليف البارز لفرنسا، يشكل خسارة جديدة مدوية للنفوذ الفرنسي في البلد، وسط تكهنات بدخول روسيا لملء الفراغ الفرنسي.
بوركينا فاسو
أصبحت علاقات روسيا مع بوركينا فاسو في دائرة الضوء منذ أن طردت الأخيرة القوات الفرنسية في فبراير الماضي في خطوة يعتقد أنها ستعزز العلاقة الأمنية مع موسكو.
وقالت الرئاسة في بوركينا فاسو إن وفدا روسيا أجرى محادثات مع رئيس البلاد المؤقت إبراهيم تراوري خلال اجتماع تناول التعاون العسكري المحتمل بين البلدين.
تراوري يتوقع أن يسير على خطى نظيره المالي، لجلب مليشيات «فاغنر» الروسية لتحل محل القوات الفرنسية في محاربة الجهاديين.
وكدليل على توتر العلاقة بين بوركينافاسو وفرنسا، فقد علقت الأخيرة مساعداتها التنموية وتلك المتعلقة بدعم الميزانية المخصصة لبوركينا فاسو، بعد أيام من إعلان بوركينا فاسو ومالي أنهما ستعتبران أي تدخل عسكري ضد الحكام العسكريين الجدد في النيجر بمثابة «إعلان حرب».
موزمبيق
بدأ التسلل الروسي إلى هذا البلد تحت غطاء محاربة تنظيم الدولة الذي انتشر عام 2018 في شمال موزمبيق، وبالضبط في مقاطعة كابو ديلغادو، الغنية بحقول الغاز الطبيعي.
وعقدت «فاغنر» شراكات مع «موزمبيق» لمحاربة التنظيم، فمنذ شتنبر عام 2019 يتواجد نحو 300 عسكري من الشركة الروسية في البلاد مزودين بطائرات بدون طيار وأدوات عسكرية عالية التقنية لتحليل البيانات.
وينتشر عناصر «فاغنر» في بلدة «موسيمبوا دا برايا» الساحلية، ومنطقتي ناكالا ونامولا القريبتين من كابو ديلغادو، التي تستثمر فيها كبرى الشركات العالمية 60 مليار دولار لاستغلال حقول الغاز البحرية، وهي أكبر استثمارات في أفريقيا.
وبالتزامن مع ذلك، فقد زار الرئيس الموزمبيقي فيليب نيوسي، موسكو في غشت 2019، ووقع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتفاقيات في مجالات الطاقة والدفاع والأمن، تلاه إرسال معدات عسكرية إلى العاصمة مابوتو بينها مروحية هجومية من نوع «مي17».
أريتريا
تتمتع هذه الدولة بعلاقة بعلاقات قديمة مع روسيا التي دأبت على تقديم دعم مالي وعسكري على مر السنين.
وتسعى روسيا إلى استخدام الإمكانات اللوجستية لميناء مصوع على البحر الأحمر، والترانزيت عبر مطار هذه المدينة، في إطار علاقات وثيقة بين الطرفين امتدت منذ عام 1993 بعد أن استقلت أريتريا عن إثيوبيا.