شوف تشوف

الرأي

هانيبال في التاريخ

 

بقلم: خالص جلبي

 

كلمة «كاني Canne» ذهبت مثلا في العلم العسكري، ولكنها لروما كانت محزنة كبرى، هلك فيها جيل كامل من خيرة شباب العاصمة الإمبراطورية، على يد هانيبال القرطاجي، ودارت رحاها على الأرض الإيطالية (حاليا)، وبعد هذه المعركة لم تقو روما على مواجهة هانيبال قط، وعاث هانيبال لمدة 18 عاما في الجنوب من أجل أخذ تحالفات ضد روما، لشعوره أن حصار روما واستسلامها يحتاج إلى ما لا يقل عن ثلاثة أرقام المحاصرين، حسب الفن العسكري، وكانت مدينة كابو من هذا الطابور الخامس، فدفعت ثمنا مدمرا بعد انقلاب الزمن على هانيبال.

وفي الواقع إن هذا الشخص المبدع بالفن الحربي والكراهية المريرة لروما، كان قدر روما الذي لا تنساه حتى اليوم، فقد أصبح الرعب الأكبر المهدد لزوال روما، ولذا لم ترحم روما قرطاج قط، ولم تكن يوما رحيمة، وما عرف التاريخ فاتحا أرحم من المسلمين، كما وصف ذلك جوستاف لوبون في كتابه عن التاريخ وسيكولوجية الشعوب.

وشخصية هانيبال مزيج من الرعب والقوة والفن، والذكاء والشخصية الكارزمائية، والتصميم والشباب المغامر. فهل يعقل أن يغامر ويقامر قائد في تلك الأيام على عبور جبال الألب في الشتاء، مع الفيلة المعتادة على الطعام الوفير في المناخ الحار؟

هذا وأمثاله فعله هانيبال، ولكن أعظم المعارك التي شنها كانت أولا معركة «تراسيمين»، حيث ذهلت روما وهي ترى قوات قرطاج تنزل عليها في ظهرها، وكأن الجان حملتها وأنزلتها فوق شبه الجزيرة الإيطالية.

والقصة تبدأ من إسبانيا، حيث كانت قرطاج في القسم السفلي من شاطئ المتوسط قد امتدت بأذرع هائلة تجارية في كل مجال البحر المتوسط. وحين نشأت روما كانت مدينة صغيرة لا تجرؤ على التنافس، ولكنها فعلت ذلك وهكذا ابتدأت ما عرف بالحروب البونية، ما يشبه الحروب العالمية في العالم القديم. على فترة امتدت أكثر من قرن، وكان هانيبال قائد الجولة الثانية المدمرة.

هانيبال كان طفلا صغيرا حين شحنه والده بالمرارة في حياته ضد روما، وهكذا نشأ من أجل هذه الرسالة، أي هزيمة روما، وإذ كان مميزا فقد أصبح معبود جنوده ومثلهم الأعلى، يمشي بهم وأمامهم إلى أصعب المهمات.

ومن إسبانيا بدأت الحملة العسكرية، فمشت شرقا حتى صادفت قمم جبال الألب، فتابعت سيرها بين أعداء كثر، من صقيع قاتل، وثلج يغطي القمم يعس خلاله جيش طوله 25 كيلومترا، وغارات من قبائل الجبال، وفيلة تحتاج إلى العلف بكميات خرافية، ولكنه هانيبال المعجزة العسكرية.

وحسب تقديرات بعض العسكريين، فإن هانيبال فعل ما يعتبر في نظر الاستراتيجيين خطأ غير محتمل فيه هلك نصف جيشه، ولكن مثل هذه الأمور من يحكم فيها هي النتائج.

وحين رست قدماه في الأرض الإيطالية لم تقدر روما خطره حق التقدير، فأرسلت له جيشا أهلكه، ثم حشدت له أفضل الفيالق بأفضل القادة، وكانت المعركة هذه المرة التي أخذت اسمها «كاني»، أي الكماشة. وهذه وقعت بعيدا عن روما، فبعد تقدم هانيبال إلى روما أدرك صعوبة الاستيلاء عليها، وراسل قرطاج، ولكن الطبقة الأوليغارشية هناك لم تقدر الفرصة الذهبية في إزاحة الخصم المدمر من وجهها. وهكذا توجه هانيبال إلى الجنوب الإيطالي يبحث عن تحالفات يحاول من خلالها القضاء على روما في أرض روما، إيطاليا الحالية.

وتكتيك الكماشة تكرر بفارق ألفي سنة، هلك فيه الجيش النازي السادس بقيادة «فون باولوس»، في الحرب العالمية الثانية، «بقوات بلغت 360 ألف جندي»، حين أحكم إغلاق الطوق عليه من الجيش الأحمر، ولولا وجود الطيران لأبيد في أيام معدودات، وهو ما حصل للجيش الروماني.

وخلاصة هذا التكتيك العسكري أن الجيشين يتقابلان بقلب وميسرة وميمنة وذيل مع الخيالة على الجوانب، ثم يحمى الوطيس ويهرع الأبطال في دخول بوابة الموت.

أما هانيبال فدفع القلب إلى الأمام، ثم خطط له بالتراجع وكأنه ينهزم وهي خديعة، فيفرح العدو ويتقدم فتنسحب المقدمة أكثر فأكثر، وإذا أصبحت مقدمة جيش العدو قد غطست في عمق جيش هانيبال، فهو يستجرها أكثر فأكثر، في الوقت الذي تلتف الأجنحة تدريجيا على جوانب العدو، وحين يكتمل الطوق الجانبي تقوم الخيالة بالالتفاف على العدو من الخلف، وهكذا يحكم إغلاق الدائرة على العدو، وفي هذه الحالة يقاتل الجيش بحوافه فقط، ويصبح لهانيبال أشبه بقطعة لحم السلامي والشاورما، فيقطعها شرائح بسهولة، ويقضي على الجيش بأكمله.

وهكذا فقد قتل هانيبال في ذلك اليوم المشؤوم 80 ألف روماني من خيرة شباب روما، فلم يبق بيت وبر ومدر وكبير وصغير وقنصل وحقير، إلا وقد خسر منه شاب وهلك يافع وذبح كهل.

بعد هذه المعركة بدأت روما تتعلم من هانيبال فن القتال، وأن الحرب ليست شجاعة فقط، بل علم استراتيجي تكتيكي يلعب فيه الذكاء والمناورة والخدعة والتربص والانتظار إلى آخر فنون الحرب. وبذلك نشأ العلم العسكري وتطور وما زال. وقد يسأل سائل، ثم ماذا جرى؟ فشل هانيبال في الهدف الاستراتيجي في القضاء على روما، وخرج شاب اسمه سكيبيو أخذ اسم الإفريقي، لأنه تعلم الكثير من تكتيكات هانيبال وليناجزه على أرضه قريبا من قرطاجنة في معركة زاما في 19 أكتوبر عام 202 قبل الميلاد، ويهزم فيها هانيبال للمرة الأولى على يد تلميذه الجديد العدو، ولم يكن أمام قرطاج إلا تسليم هانيبال، ولكنه آثر الفرار على العار، فلحقته روما إلى بلاد الشام الحالية، حيث كان خلفاء الإسكندر يحكمون، فحاول تحريكهم ضد روما للتخلص من أن يصبحوا لقمة في فم روما الجائعة، ولكنه خسر الرهان وإذ طوقته قوات روما كان الرجل قد أعد عدته للموت وهو شيخ، فتجرع السم فأخذته روما ليس رهينة وأسيرا، بل جثة متعفنة. عاشت قرطاج بعد ذلك جيلا آخر، ليهجم الرومان عليها فيقتلوا كل الساكنة، قيل إنها كانت تضم نصف مليون لم يبق منها إلا 50 ألفا سيقوا عبيدا إلى روما عام 146 قبل الميلاد. نعم كانت روما فاتحا لا يرحم، وكان على قرطاج أن تنتظر سبعة قرون حتى حررهم الإسلام، فهي في حضن الإسلام إلى اليوم.   

 

نافذة: 

بعد هذه المعركة بدأت روما تتعلم من هانيبال فن القتال وأن الحرب ليست شجاعة فقط بل علم استراتيجي تكتيكي يلعب فيه الذكاء والمناورة والخدعة والتربص

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى