شوف تشوف

الرأي

نوفمبر.. شهر تساقط الأوراق

زينب بنموسى

‏لا زلت واقفة على عتبة الأمل، تسكنني غصّة لا تحيد عن صدري مهما ردمتها بالتفاؤل كما لو أنها تصرخ بالحقيقة، تلك التي أعرضت عنها من فرط حلكتها لا من فرط إشراقي، وأمد كفي بالرجاء المعذّب للسماء أن تمطر صبري  بالفرج، أنا مغروسة في الوجع، مذابة على أوجه الراحلين، ولم أستطع رغم كل محاولاتي أن أحدد موقفي بعد من الصور. هل فعلا تخلد الذكرى، وتساعد على استرجاعها حين الحنين، أم هي اختراع شيطاني مؤلم لا فائدة منه غير تقليب المواجع ونبش الجراح؟
قبل قليل أرسل لي أبي صورة جميلة/مفزعة/مؤلمة في الوقت نفسه، صورة تصرخ بالمشاعر، استطعت أن أسمع خلف زجاج الهاتف صرخة الوجع والشوق والجمال الصادرة عنها، كأنها التقطت في بعد آخر، توثق وجوه جميع الراحلين. حين رأيتها للمرة الأولى تزحزحت صخرة قلبي بألم من مكانها. كيف رحلت عنا أمي؟ لماذا بقينا نحن؟ ولماذا بالضبط قررنا في زمن غابر أن نوثق لقطة مشابهة كأننا نعلم أن الأيام القادمة ستفرق جمعنا؟
حين سأحدد موقفي من الصور سأكون قد حددت موقفي من الذكرى، إما تقبلتها، وإما اجتثثتها من ذاكرة قلبي حتى لو أتلف ذلك كل ما التقطه هذا القلب الحزين من تواريخ خلال هذا العمر الذي قصره الحزن.
إلى وقت قريب كنت أظن أن أعظم الأحزان وأقواها هي رحيل شخص عزيز عنك، مواجهته حنينك بالجفاء، ومقابلته لمشاعرك الفياضة بالتجاهل، لكن شهر نوفمبر من السنة الماضية لقنني درسا جديدا في اللغة، وأظهر لي معنى جديدا لكلمة رحيل، معنى يصل إلى قعر الفؤاد هناك حيث تختبئ كل الجراح والأحزان التي كنت أظن أني دفنتها سنة بعد أخرى، يطرد كل المواجع التي سبقته، يفسح المجال لنفسه، ثم يتربع هناك وحيدا، كسرطان فتاك متجبر، يستمتع بصنع ثقوب في الروح، ويسلي نفسه بنكأ الجرح نفسه مرة تلو الأخرى.
رحيل حقيقي لا أمل للعودة منه، لا فرصة للشرح، والإصلاح، لا اعتذار قد يغير واقعه، ولا ندم قد يطبطب جرحه، رحيل غير مرتبط بالمواقف، ولا بالمشاعر، ضيف قاس يحل فوق رؤوسنا فجأة ويخطف حتى أقرب القلوب إلينا، يأخذ دون سابق إنذار كل أولئك الذين ظننا أننا لن نستطيع إكمال الطريق دون الاتكاء على حضورهم، رحيل يسقط كل الأوراق مهما قاومت الشجرة، يجتث خضرتها، ويمتص الحياة من جذورها.
راضية أنا كما ينبغي أن أكون بما قرره في حقي القدر، هشة كقطعة خبز معرضة للشمس، لكني أظل أدعي القوة وإن كنت لا أدرك سبيلا إليها بعد رحيل أمي، جنت الحياة علي، وفتت جميع دهاليز روحي، ولا أزال واقفة صلبة بكل انكسار، لأن لا حزن كفيل باستدعاء من خطفتها المنية من بين يدي، ولا رثاء قد يوفيها كل حقها.
رحم الله موتانا وموتاكم، وجبر بقلوبنا وقلوبكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى