نور الدين كديرة.. رئيس القسم الرياضي بالإذاعة الذي مات قبل طبع كتابه
في 29 دجنبر 1990 توفي الإعلامي والإذاعي الرياضي نور الدين اكديرة، بمستشفى نيكير بالعاصمة الفرنسية باريس. كان خبر الوفاة مفاجئا لمن يعرف نور الدين، الذي كان رئيسا للقسم الرياضي بالإذاعة الوطنية، ورئيسا لخلية الإعلام بالجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، في فترات طويلة.
عانى الرجل في صمت من مرض القصور الكلوي، ولكنه كان يهاب المرض ويحرص على عدم زيارة الطبيب، لكن بإصرار من زوجته وأصدقائه، دخل مستشفى ابن سينا مكرها، حيث خضع للعلاج. هناك قضى نور الدين أياما في غرفة العناية المركزة، وحين غادر المصحة تبين أنه مطالب بالخضوع لحصص تصفية الدم. قضى مدة شهرين كاملين بين المصالح الطبية، حيث عمل على تشخيص الداء ومتابعة تطور الحالة المرضية. ولأن العلاج في المغرب لم يؤت أكله ولم يغير من ملامح الإنهاك التي لازمت جسده، فقد اضطر اكديرة إلى السفر مكرها مرة أخرى، لولوج المصحة، ولكن هذه المرة خارج المغرب، وتحديدا في العاصمة الفرنسية باريس، رفقة الصحفي إبراهيم الفلكي الذي كان صديقه منذ الدراسة في مدارس محمد الخامس بالرباط.
كان نور الدين يخشى ركوب الطائرة، إذ ظل يعاني وهو في الجو من «فوبيا العلو»، كما كان يخشى المرض ويظل على امتداد فترة العلاج يسأل عن تطوره ومدى خطورة إصابته.. بل إن شهادة طبيب جزائري أكدت اجتياح نوبة بكاء لاكديرة كلما شعر بالوحدة، إلى أن توفي في ليلة كانت فيها باريس تعيش أفراح نهاية السنة الميلادية.
قال التقرير الطبي إن الوفاة ناتجة عن نزيف في الدماغ، وإن الراحل كان يبكي من شدة الألم، قبل أن يدخل في غيبوبة، فارق إثرها الحياة وهو يضع على جانب سريره مجلات وصحفا رياضية فرنسية كان يستأنس بقراءتها في خلوته المرضية.
أشعرت إدارة المصحة رفيقه الفلكي الذي حضر إلى عين المكان، وقام بإخبار سفارة المغرب في باريس وأرملة الراحل. وعلى الفور انتقل عباس الفاسي إلى مصحة «نيكير»، وحلت زوجته بباريس بعد ساعات مرفوقة بابنهما «عمر»، وشرع الجميع في تدبير عملية ترحيل الجثمان إلى الرباط، حيث ووري الثرى في مقبرة «الشهداء» في موكب جنائزي مهيب.
بكاه طاقم المصحة الباريسية في مشهد أثار انتباه الجميع، خاصة وأن المصحة كانت تتكون من أطباء مغاربة، من قبيل رئيسة القسم الدكتورة شقوف، والدكتور بنعمر وغيرهم من الأطباء الجزائريين، يروي الفلكي هذه اللحظات بكثير من التحسر:
«حين أتذكر هذا الحدث فإنني أتذكره بأدق التفاصيل، منذ أن ولج (نور الدين) مستشفى ابن سينا بالرباط على امتداد شهرين، وكيف سافرت معه إلى فرنسا قبل بداية شهر دجنبر 1990، وكيف كنا نقضي وقتنا يوميا في المستشفى وأغادره نهاية كل يوم، وكيف أصبح محبوبا وهو دائما كذلك مع أطباء وممرضات وممرضين والأعوان من جنسيات مختلفة، وكيف كنت أحاول انتزاع الخوف من دواخله. إن رحيل الصحفي المشاكس نور الدين اكديرة عن المشهد الإعلامي الرياضي المغربي، لا يمكن أن تلغيه من الذاكرة بعض لحظات أو بعض شهور وسنوات، مع ما رافق ذلك من أحداث ليس فقط كرة القدم التي أصبحت أبرز انشغال الصحافيين، ولكن كما كان يصر المرحوم نور الدين اكديرة حين جعل من القسم الرياضي بالإذاعة المغربية بالرباط، مشتلا مهما تخرج منه العديد من الإعلاميين الرياضيين وتسلقوا درجات الإبداع الإعلامي مغربيا ودوليا».
مات الرجل فقيرا إلا من حب الناس، فقد توفي وهو يكتري شقة بزنقة عقبة بن نافع في حي أكدال، لم يكن يملك العقارات على غرار صحافيي هذا الزمن، بل كان يعيش على الكفاف والعفاف، مستثمرا ماله القليل في تعليم ابنته «هنيدة» التي تخرجت من جامعة «الأخوين» وأصبح لها بيت زوجية يؤويها، وابنه «عمر» الذي اختار دراسة الحقوق قبل أن يجد لنفسه عملا خاصا، بينما تسلمت أرملته المشعل وأصرت على مواصلة المسار رغم ضيق ذات اليد، وهي تعلم أن الراحل كان يتصدق على الآخرين حتى ولو كان أحوج إلى ما يتصدق به على الناس.
مات اكديرة دون أن تتحقق أمنيته، فقد كان يعد في آخر أيامه كتابا حول «تاريخ كرة القدم المغربية منذ الاستقلال إلى 1990»، لكن المرض حال دون استمراره في وضع آخر «الرتوشات» على المشروع الذي ظل مصادرا إلى أن أفرج عنه في كتاب مشوه لا يتماشى وأحلام الراحل نور الدين.
وفي ذكرى تأبينه بقاعة ابن ياسين بالرباط، تعرض نور الدين للتنكر، حين غابت وجوه صنع جزءا من مسارها المهني، بينما تعرضت الصور النادرة التي زينت بها أرملته قاعة التأبين للسرقة، وحين انفض الجمع علمت أن مجموعة من الحاضرين أبوا إلا أن يسرقوا صور الراحل كما سرقوا فنه وهو حي يرزق.