شوف تشوف

الرأي

نوال السعداوي .. النسخة الإسلامية

محمد طلبة رضوان

«إنكم معشر الأساتذة الغربيين تحرضوننا للخروج على ديننا، والتمرد على ثقافتنا وحضارتنا، وتزعمون أن الإسلام يعادي المرأة وحقوقها، وقد اطلعت على أمور كثيرة لديكم من التمييز والتفرقة والنظرة الدونية للشعوب الأخرى، وهو ما لا يمكن أن نجد له مثيلا في ديننا ولا في ثقافتنا، ولا في تقاليدنا».. هذه الكلمات قالتها نوال السعداوي، في لقاء علمي في واشنطن، عام 1994. روى لي الحكاية بتفاصيلها، العلامة الأصولي الأزهري، طه العلواني، رحمه الله، وكان مدعوا للقاء، وسمع ما قالته السعداوي، وبكى تأثرا، ليس لأن ما قالته جديد عليه، وهو الذي نشأ في الأوساط الشرعية، وسمع مثله آلاف المرات، وإنما لأنه صدر عن نوال، وهو ما لم يتوقعه الشيخ، وتوقع ضده، وفق صورتها النمطية الساذجة لديه، بكى الشيخ من نفسه وعليها، وتمنى للسيدة الخير، ودعا لها بخير، وسجل موقفها في كتابه «لا إكراه في الدين» (طبعة ثانية، 2006) عرفانا واعتذارا.
ما أسهل أن تأتي بنصوص لنوال السعداوي تُثبت كفرها، وما أسهل أن يأتي غيرُك بنصوص وشهادات تثبت إيمانها، ويتحول النقاش حول «مشروع مفكر» إلى سجال فقهي ونصوصي حول، الإيمان والكفر، الجنة والنار، الإسلاميين والعلمانيين، من معنا ومن علينا… قراءات طهرانية، وأخرى قَبَلية، وهو ما يتكرر عند تقييمنا أي مفكر، طارق البشري إسلامي أم وطني، محمد عمارة عقلاني أم سلفي، نصر أبو زيد مسلم أم كافر، نوال السعداوي مؤمنة أم ملحدة؟ كل فريق يأتي بنصوصه الحرفية المأخوذة من سطر هنا أو تصريح هناك، ويُهمل رصد التجربة، في مجملها، واقعها، وسياقاتها، ومخاضاتها، ومكابداتها، وتقلباتها، ويفرح بما لديه، ويقدم لجمهوره ما يشتهي، ويحصد الإعجابات الكاذبة، وتستمر الملهاة المأساة.
حين يخبرني أحدهم أن فلانا قال، أسأله متى قال، وأين قال، في أي موقف وفي أي سياق وفي أي تاريخ وفي أي ظرف، وفي أي سن، وفي أي وسيط، هل كتب مقالا أم كتابا، أم «بوست» ردا على آخر، أم تعليقا ردا على تعليقات، أم استفزه مذيع «توك شو» لينتزع منه ما لم يقصده حرفيا؟ من هنا، يمكنني التمييز بين معرفة هادئة وأخرى أنتجتها سجالات ونزاعات ومناظرات، لا قيمة لها.
ثمة تيار كامل من الكتاب والباحثين والمفكرين والمناضلين يمكن أن يسمى «تيار الحنق»، وحده الحنق ما يدفعه إلى البحث والمعرفة والاشتباك، وحده ما يحركه، يقوده، يسيطر عليه. وهو حنق نبيل، وغضب مشروع، وسخط واجب، يدفع إليه سوء الأحوال، ويغذيه استمرارها، ويؤججه تبريرها وتمريرها وتديينها، ومن ثم تأبيدها. لم تكن نوال السعداوي جزءا من هذا التيار، كانت تيارا وحدها، نسوية قبل الحركة النسوية. وقفت، ربما عقدين، وحدها، تقاتل من أجل حقوق بنات جنسها، الدينية والسياسية والاجتماعية والشخصية، سبقت شيوخ الأزهر ولجان الفتوى في تجريم الختان، ليس لأنها تفوقهم علما، ولكن لأنها تفوقهم شجاعة، واجهت مجتمعها بكل ما يقلقها، تكلمت على قدر سكوته، تجرأت على قدر استبداده، تبجحت على قدر غروره، مارست التفكير بصوت مسموع، والصراخ بصوت مكتوب، انتزعت حق التجريب، وحق الخطأ.
مع نوال السعداوي لا أتوقف كثيرا أمام صحة فكرة أو خطئها، مثاليتها أو واقعيتها. أتوقف، أولا، أمام قدرتها على طرحها، جنوحها، جموحها، طموحها، قوة إلقاء «طوبة» مؤنثة في وجه زمن ذكوري، معدوم الرحمة والرجولة، وإسالة الدماء منه أياما وشهورا وسنين. لم تكن نوال واقعية، ولم تكن المسافة بين مشاعرها وكتاباتها كبيرة، ولم تهتم هي بتبرير أفكارها أو تشفيرها، طرحت ما لديها، كما هو، ودفعت ثمنه، حية .. وميتة.
لا أعرف إذا كانت نوال السعداوي مؤمنة أو لا، ولا أعرف أنها تعرف، ولا أعرف أحدا يعرف. هذه التجارب الفكرية المؤلمة أكثر تعقيدا وتركيبا من أن يقف على حقيقتها أحد. وحده، جل شأنه يعلم السر وأخفى، ولذلك فهو وحده «الديان».. من حسن حظنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى