شوف تشوف

الرأي

نهاية حقبة التفوق الأمريكي

لا يغترن أحد بصعود الدولار مقابل الدرهم واليورو، ففي الطب نعرف مريض السل بظاهرة الشمعة، فهو متألق ولكن قبل النهاية. وربما كان تسلح أمريكا الأعظم في العالم وميزانيتها الأكبر عسكريا، ولكن آشور ماتت (مختنقة في الدرع) كما يقول المؤرخ البريطاني توينبي، وهي علامة خطيرة على انتفاخ الإمبراطوريات (المرضي). وحسب (باول كينيدي) المؤرخ الأمريكي، فالحقبة الأمريكية ستنتهي قبل نهاية القرن الحالي بكثير، وسيتراجع الإنتاج الأمريكي العالمي من أربعين بالمائة إلى حوالي 18 بالمائة.
نعم ستتقلص أمريكا وتنكمش فهذه سنة الله في خلقه، وهلك المبطلون. ولعل السكوت عن دماء السوريين سيطالهم، فالكون وحدة مغلقة، ومن يسكت عن الظلم والقتل وهو يملك ردعه يساهم فيه. والأمريكيون يعيشون على الدين وفوق إمكانياتهم، يحسنون اللعب في البورصات، ولكن عندما يفقد الناس الثقة بالدولار فسوف يركب بوش (بسكليت). وانتفاخ الدولار وقيمته ليست منه، ولكن لأنه العملة القائدة في العالم، ويتم شراء وبيع البترول به ومنه وفيه.
ولعل صدام المصدوم انتبه إلى هذه اللعبة الخطيرة، فأراد بيع البترول باليورو فجاءته الصدمة والدهشة وصاعقة العذاب الهون؛ فأصبح في ذمة التاريخ في قائمة الديكتاتوريين المنسيين.
وفي مطلع يناير من عام (2016م) خرجت صحيفة (الديلي تلغراف) بتقرير مفيد، تقول فيه أنه بعد مرور ربع قرن على حرب الخليج، يبدو أن طبيعة الحرب تغيرت تماما، وأن التفوق الأمريكي ينحسر لصالح طبيعة جديدة في الحرب، فحرب الخليج في عام 1991م تؤرخ لبداية النهاية في التفوق الأمريكي، لأن تحارب الجيوش كان يكتب في مصلحة القوة الأعظم، كما حصل في إخراج صدام من الكويت، حين تخاض الحرب بين جيش نظامي وجيش نظامي (لنتذكر مواجهة الدبابات ومداها بين نموذج أبرام و تـ 72 الروسية وتباين مسافة الرمي، مما حول دبابات صدام إلى مرمى مريح للدبابات الأمريكية من نوع أبرام، ومذبحة عارمة لدبابات صدام الروسية). ولكن طالبان مثلا آثرت الذوبان في جبال الهندوكوش لتخوض معركة استنزاف طويلة الأمد في وجه أعتى آلة عسكرية في التاريخ، بسبب هشاشة الديمقراطية وعدم تحملها حرب نزف وموت الجنود، وهي نفس مشكلة إسرائيل أيضا مع حزب الله في جنوب لبنان، ومقاتلوه الذين أضحوا يقتلون في الأرض السورية وهم يهتفون هايل هتلر ـ عفوا نصر الله ـ وهو ما حصل أيضا في معركة أمريكا مع الشقي المكسيكي (بانشو فيا) عام 1924م حين اعتدى على الحدود الأمريكية، وكيف أرسل الرئيس الأمريكي (وودرو ويلسون) يومها تجريدة من عشرة آلاف جندي، ليرتفع الرقم بالتدريج إلى 124 ألف جندي أمريكي بدون فائدة، لينسحب من المكسيك جارا أذيال الخيبة، وليصبح الشقي المكسيكي بانشو فيا ـ كما هو الحال مع الشقي اللبناني نصر الله ـ بطلا تزعق الجماهير المغفلة بحياته طويلا.
هذه المسألة كتبت فيها أنا كثيرا من زاويتين، الأولى: أن القانون الثالث في الميكانيكا، ينطبق على قوانين البيولوجيا في حرب الجراثيم، كما يصدق في صراعات البشر؛ ففي ميكانيكا القانون الثالث لنيوتن أن كل فعل له رد فعل مضاد في الاتجاه ومساو في القوة، وإن كان توينبي المؤرخ البريطاني تكهن برد فعل أفظع في صراعات البشر، كما حصل في الاحتقان السوري ثم تفجره ورمي شظايا اللافا في كل اتجاه، حتى تدفق المقاتلون من كل حدب ينسلون مثل يأجوج ومأجوج.
والثانية أن حماقات البشر تنتهي في النهاية وتصب في ما دعا له الأنبياء من الحب والرحمة والتسامح والإيمان. ولكن بعد ضريبة باهظة من أنهار من دموع، فوق جسور من الآهات والندم، استجابة لدعوة إبراهيم الخليل في إقامة أول بيت للناس مثابة وأمنا وشحنا دوريا لروح السلام في العالم.
قالت الصحيفة البريطانية «إن حرب الخليج التي دارت رحاها عام 1991 تمثل بداية النهاية للتفوق الأميركي، على الرغم من أنه بدا للوهلة الأولى أن الولايات المتحدة تستطيع إحراز نصر في أي مكان في العالم، بيد أنه ثبت خطأ ذلك الاعتقاد بعد مرور 25 عاما على تلك الحرب».
أما حرب الأسلحة المتطورة فرأت أنها أصبحت أسلوبا عتيقا جدا، فقد غابت عنها تماما «الهجمات الانتحارية والمتفجرات بدائية الصنع.» فهدف حركة طالبان كما أشرنا لم يكن إلحاق الهزيمة بأميركا في ساحة القتال، بل إنهاكها كقوة عظمى باستغلال أكبر مكامن الهشاشة في أي ديمقراطية، والمتمثلة في عدم استعدادها لخوض صراع طويل الأجل.
ومنه، فقد استوعبت هذا الدرس ثلاثة أطراف؛ الجهاديون بخوض حرب عصابات تقوم على التفخيخ والهجمات الانتحارية ورخص الإنسان المحبط اليائس، وضابط المخابرات السابق في الشتازي الألماني STASI (بوتين) باعتماد أسلوب الأرض المحروقة (جروزني والشيشان) ومزج الأسلحة التقليدية بالحرب الموازية وحرب الكمبيوترات والبرامج كما خاضها في أوكرانيا؛ أما الصينيون ففكروا في نقل المعركة إلى السماء، إلى أعلى بإسقاط الأقمار الصناعية، كما جاء في محكم التنزيل عن السماء والشياطين، يرسل عليهم شواظ دحورا ولهم عذاب واصب.
ونوهت الصحيفة بأنه ما من جندي أميركي واحد خرّ صريعا بنيران «العدو» إبان الحملة العسكرية التي استغرقت أربعين يوما في حرب الخليج الأولى التي بدأت في 16 يناير من عام 1991م، وأتذكرها جيدا حين كنت في القصيم في السعودية وأنا أتكلم مع ابنتي عفراء في الطرف الآخر من العالم، فقالت لي بابا لقد بدؤوا بالهجوم بتوقيتهم وليس بتوقيتنا، فكانت الحرب عندها في الصباح وعندنا في ظلمات الليل البهيم، مع جهنم تفتح وأرواح ترسل إلى يوم القيامة. تقول الصحيفة إن الانتصار في حروب المستقبل يتطلب دحر الأعداء الذين لا يرتدون بزات عسكرية ولا يخدمون في جيوش ولا يدينون بالولاء لأية دولة، وأن خبرة ربع القرن الماضي تدل على أنه ليس هناك نصر نهائي. فكلما كان تفوقك هائلا في أحد أشكال الحروب، فإن أعداءك يُكيِّفون أوضاعهم ويجعلون ما حققته من نصر دون طائل.
مازلت أتذكر ذلك المريض سيء الحظ الذي صدمته سيارة فكسرت عظم الفخذ عنده؛ فعالجه فريق الأورثوبيديا بطريقة أليزاروف، فاجتمع عليه النحس من جديد، حين ثقبوا في الشريان ثقبا، ولم ينتبهوا إلا بتشكل أم دم نابضة مريعة مهددة بالانفجار في كل لحظة، ونقل المريض إلى الآخرة، ثم انضاف فوق النحس نحسا، حين هاجمت الجراثيم المعندة من نوع (MRSA) المكان ليطلبوني: (عم جلبي تعال لإنقاذ ما تبقى).
لا أنسى قط تلك الجراثيم التي واجهناها ولا ينفع معها صاد حيوي، كما هو الحال في الجهاديين الذين اكتسبوا المناعة ضد أي صاد حيوي.
هكذا كان وضع المريض مع جراثيم (MRSA) فلم تكن ثمة طريقة لإنقاذ الشاب إلا بالتضحية ببتر الطرف وتمت على يد غيري.
بدأ أول صراع بين ولدي آدم فقال الأول للثاني لأقتلنك ثم قتله، فأصبح من الخاسرين ثم النادمين. كان السلاح حجرا في اليد أو هراوة ثقيلة، ليتحول الحجر إلى صاروخ سكود وغازات سامة، والهراوة إلى إس 400 وقنبلة هيدروجينية، ليخاف الجميع مما صنعوا وليحاولوا العودة إلى طريق السلام الأبدي بتعبير الفيلسوف كانط، ومازال الجنس البشري على ظن الملائكة يفسد في الأرض ويسفك الدماء حتى يستجيب لدعوة إبراهيم بتوديع الدم النجس والسلاح الأنجس؛ فيولد الوعي، وتتحرر الروح الإنسانية من الخوف والقوة، وتدخل رحلة الإيمان، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهذا قادم بكل تأكيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى