تطوان: حسن الخضراوي
كانت لعنة «نساء الديوانة» أو ممتهنات التهريب المعيشي بباب سبتة المحتلة، تلاحقهن في كل مكان يذهبن إليه، ولا يستطعن أن يخرجن من دوامة دائرة العذاب اليومي والانتظار والاكتظاظ وشبح حوادث التدافع الأليمة، والاستغلال الجنسي والابتزاز بكافة أنواعه، سوى خلال لحظات راحة متقطعة بمنازلهن، شرط إذا توفقن في طرد كوابيس الخوف من المستقبل الغامض، وما يحمله الغد من شبح الطوابير الطويلة والمبيت في العراء، وكسب لقمة عيش مغموسة في الذل وتمريغ كرامة النساء في وحل استغلال شبكات التهريب المنظم، التي تختفي تحت جلباب معاناة الطبقات الفقيرة مع غياب فرص الشغل، والحاجة إلى مداخيل يومية تكفي لعدم مد اليد وطلب المساعدة.
انتهى التهريب بباب سبتة السليبة، بقرار سيادي من الدولة، وانتهت معه مداخيل شبكات منظمة لتبييض الأموال والتهريب المنظم، وأنشطة أخرى غير مهيكلة، كانت تضيع على ميزانية الدولة الملايير، وظن البعض أن «نساء الديوانة» سيصبحن عالة على المجتمع، لكن بمجرد فتح المجال للتكوين والتدريب على الاندماج في القطاع المهيكل، أبانت هؤلاء النساء عن إمكانات ذاتية أبهرت جميع الأطر المكلفة والمتتبعين، وتبين أن الطاقات والكفاءات التي يتميزن بها، يمكن أن يصنعن من خلاها مجدا في قطاع الإنتاج والتجارة وتوسيع مشاريع لتصبح في نمو مستمر حتى تحقيق نسبة تشغيل مهمة، ومداخيل مالية تكفي لسد الحاجيات والشغل بكرامة، مع إمكانية الدعم والتطور بالاجتهاد والابتكار ومسايرة التطور محليا ووطنيا وعالميا أيضا.
مصطلحات «نساء الديوانة»، «براكدية»، «حمالات رزم مهربة» وعبارات أخرى مسيئة انتهت إلى غير رجعة، وحلت محلها عبارات «نساء مكافحات»، «تعاونيات» و«مبادرات للعيش الكريم»، حيث استنفرت الدولة جميع المؤسسات المعنية، للرفع من درجة التنسيق والعمل على التنزيل الأمثل للتوجيهات الملكية السامية، الرامية إلى خلق بدائل حقيقية لممارسة التهريب، والاهتمام بالقضايا الاجتماعية لممتهنات التهريب المعيشي سابقا، بباب سبتة المحتلة.
قصص مثيرة
عواطف المغراوي في الخامسة والثلاثين من عمرها، متزوجة وأنجبت طفلتين، عملت كحمالة لرزم التهريب بباب سبتة السليبة لمدة عشر سنوات، ذاقت خلاها ويلات التدافع والاكتظاظ والمبيت بالعراء، ومشاكل غيابها عن البيت وترك طفلتيها لوحدهما رغم حاجتهما إلى الرعاية الضرورية، وحنان الأم وعطفها الضروري للتوازن النفسي عند الأطفال.
قالت عواطف بعد إطلاقها تنهيدة عميقة: «ما زالت أتذكر وقائع ذلك اليوم الأسود بالديوانة، الذي صادف يومين قبل مناسبة عيد الأضحى، حيث وقعت كارثة مصرع نساء من ممتهنات التهريب المعيشي في حادث تدافع أليم، أصبت خلاله ووقعت على الأرض، إذ لولا الألطاف الإلهية لكنت الآن تحت التراب، حيث تم إنقاذي بصعوبة من بين الأجساد التي وقعت فوق بعضها، وأصبت بجروح خطيرة ما زالت ندوبها النفسية ترافقني».
وأضافت المتحدثة ذاتها وهي تغالب دموعها، أن المشاهد الصادمة لنساء حوامل يعانين مع الاكتظاظ، واعتداء الحرس الإسباني على مسنات، ما زالت عالقة في ذهنها، وفي كل مرة تتحدث عن «الديوانة» يعاد شريط الذكريات السيئة أمامها، وتتذكر النساء اللواتي كن يبتن في العراء، لمدة تصل أحيانا إلى ثلاثة أيام من أجل العبور إلى الثغر المحتل.
تتظاهر عواطف بأنها قوية من الداخل، لكن دموعها تفضحها في كل لحظة سرد لقصتها مع التهريب بباب سبتة السليبة، فتقوم بمسحها من على خدها، وتواصل الحديث: «كنت اضطر إلى دفع مبلغ 20 درهما لمن يحرس مكاني بالصف، لأجلب الطعام وأزور طفلتي وأعود إلى المكان بسرعة، وقد يسعفني الحظ لأدخل سبتة المحتلة، وأقوم بحمل رزم ثقيلة فوق ظهري، وأنتظر لساعات ليتم إرجاعي مجددا بحجة الإغلاق، فأعيد الرزم إلى مخازن بالثغر السليب، وأغادر بجيوب فارغة، وأنا محبطة من الداخل بسبب عمل بدون كرامة ولا مداخيل قارة».
لم تكن المغراوي تظن أن معاناتها مع العمل بالقطاع غير المهيكل ستتضاعف، بدخول أزمة «كوفيد- 19» وإغلاق باب سبتة المحتلة، حيث أصبحت بلا مداخيل تذكر، قبل أن تبادر المصالح الحكومية إلى فتح باب التسجيل في الإنعاش الوطني، فتم قبولها وانتشالها من أزمة البطالة، حيث عملت لمدة أربعة أشهر بالقطاع المذكور، وتمكنت من الاستفادة من جلسات استماع من قبل لجان لتحديد الطاقات والكفاءات النسائية، ودمج نساء في وضعية صعبة بإقليم المضيق.
تختم عواطف حديثها وقد لاحت ابتسامة على وجهها: «لقد كان اندماجي في التكوين لصنع الزيوت الخاصة بالتجميل في تعاونية «جبليات» سريعا، وهذا ساهم في إنهاء كوابيس الاكتظاظ والفوضى والموت التي كانت تزورني ليلا، وصرت الآن أطمح إلى مستقبل زاهر في ظل العمل بالقطاع المهيكل، والمزيد من التعاونيات المنتجة والشغل بكرامة وتنظيم الوقت».
بالنسبة إلى عزيزة القابلي التي تبلغ من العمر 56 سنة، ولها خمسة أبناء، فإن مدة العمل في التهريب بباب سبتة المحتلة تجاوزت 28 سنة، حيث كانت في السنوات الأولى تحصل على مداخيل يمكن من خلالها توفير الحاجيات الضرورية وحتى الكماليات، لكن مع تزايد عدد ممتهني التهريب المعيشي، وارتفاع نسبة الهجرة من البوادي والمدن في اتجاه الفنيدق، أصبح من الصعب ضمان العبور في اتجاه الثغر السليب، وزادت مخاطر الاكتظاظ ومشاكل الطوابير الطويلة، والازدحام وحوادث التدافع المميتة.
قالت عزيزة إن التمييز في الدخول والاعتماد على القوة والنفوذ كان هو السائد في ممارسة التهريب بباب سبتة المحتلة، وحوادث الازدحام تسببت في إصابتها بكسر خطير على مستوى رجلها اليمنى، ألزمها المشي بالاعتماد على عكاز لمدة سنة كاملة.
وأضافت المتحدثة وهي ترسم ابتسامة على وجهها: «لا يهم كل ما مضى من معاناة، لأننا الآن والحمد لله نتدرب داخل التعاونية على إنتاج مواد تجميل، وهذه المبادرة التي أتت بتعليمات ملكية سامية، نشكر عليها ملكنا محمد السادس نصره الله، لأنني شخصيا لم أرث من الديوانة سوى مرض السكري والقلب، ولا أتمنى العودة نهائيا إلى التهريب ومصائبه، لأنني على الأقل أنام الآن في هدوء، وحالتي النفسية مستقرة، رغم المداخيل المتواضعة، التي نطمح إلى أن تستمر وترتفع في المستقبل».
من التهريب إلى المسرح
هي تجربة مثيرة تلك التي حكتها لنا الجدة أمينة بنحموش المزدادة سنة 1958، التي عملت بقطاع التهريب لمدة أكثر من 25 سنة، كانت تعيل من خلاها أولادها الأربعة، حيث اختفى زوجها في ظروف غامضة، وهي ما زالت صغيرة في السن ولم يظهر له أثر منذ سنوات.
لقد نجحت السيدة الستينية في المشاركة في مسرحية تم عرضها بمهرجان خاص بانطلاق تعاونيات إنتاجية لإدماج نساء في وضعية صعبة، والاهتمام بالحالات الاجتماعية، حيث قامت بالتدرب رفقة نساء من ممتهنات التهريب سابقا، لمدة وجيزة فقط، لتجسيد معاناة «نساء الديوانة»، وكانت النتائج مبهرة للحضور، لتقديم المسرحية بلمسات محترفة، جعلت عدد من الفنانين المهتمين يتساءلون عن السر في نجاح الأداء.
قالت بنحموش: «لقد استفسرنا أحد المسؤولين الكبار بإقليم المضيق، عن السر في نجاحنا في إبهار الجمهور عند تقديم مسرحية معاناة نساء الديوانة، وكيف تم التحول من فوضى القطاع إلى العمل بقطاع مهيكل، فكانت إجابتنا له، أننا كنا نعيش فصول المسرحية بشكل حقيقي كل يوم، والمعاناة كانت بمثابة تدريب لسنوات على الأداء!».
تستحضر أمينة حادثة أليمة وقعت لها، عند الاعتداء عليها من قبل السلطات الإسبانية، لدفعها إلى الخروج في اتجاه الفنيدق، في حين كان هناك مسؤول جمركي مغربي معروف بصرامته يصادر كل السلع المهربة، فأصبحت بين نارين، إذا عادت إلى الخلف تتعرض للتعنيف والضرب من قبل السلطات الإسبانية، وإذا تحركت إلى الأمام تخاف من مصادرة سلعها من قبل الجمارك المغربية، والخروج خاوية الوفاض.
بنحموش تعمل الآن بقطاع تعاونية مهيكلة لبيع المنتوجات التجميلية الطبيعية بالفنيدق، وهي راضية عن مدخولها كما حدثتنا، وختمت قصتها المختصرة بالمثل الشعبي «قليل ومداوم ولا كثير ومقطوع».
إكراهات وتحديات
تقف مجموعة من الإكراهات في طريق عمل التعاونيات الإنتاجية، التي تم تسجيلها من أجل مساعدة النساء في وضعية صعبة بإقليم المضيق، قصد الاندماج في سوق الشغل، والمساهمة في التنمية، حيث تواجه النساء صعوبات في عملية التسويق والإشهار وتحقيق المكانة في السوق المحلية والوطنية، فضلا عن ضمان الاستمرارية في الإنتاج والرفع من المستفيدات من التكوين والإدماج، وتنويع الأنشطة الإنتاجية ومواكبة التطورات والآليات الحديثة في الصناعة والتجارة.
وحسب مصدر مسؤول، فإنه تم وضع برنامج واضح لمعالجة الإكراهات الخاصة بالتسويق، من خلال تحضير موقع إلكتروني رسمي باسم «جبليات»، سيقوم بالإشهار وتقديم كافة المعلومات حول المنتجات والسلع، فضلا عن إمكانية البيع من خلاله، والانفتاح على الأسواق الممتازة، والمراكز التجارية الكبرى، بالاعتماد على الجودة وكسب ثقة الزبون، سيما وأن إنتاج التعاونيات الخاصة ببرنامج «جبليات» يتعلق بمواد طبيعية وصديقة للبيئة، والغلاف الخاص بالسلع نابع من ثقافة وتراث المنطقة.
وأضاف المصدر نفسه أن استمرارية التعاونيات ترتبط بأحوال السوق والحركة التجارية، والبيع بشكل أساسي، وهو الشيء الذي تعمل المؤسسات الداعمة على ضمان نجاحه بانطلاقة قوية، هدفها السير بمنتوجات «جبليات» من المحلي إلى الجهوي إلى الوطني ثم الدولي، بخطوات واضحة واستراتيجية مبنية على أسس متينة ترتبط بقطاع مهيكل، قادر على التأقلم مع تقلبات السوق ومسايرة العصر.
وأشار المصدر ذاته إلى أن كل مشروع ناجح في العالم كان عبارة عن فكرة آمن بها شخص أو أشخاص، وقاموا بالاجتهاد في تنزيلها والمرونة في التعامل مع الإكراهات والمعيقات حتى تحقيق الأهداف المطلوبة، ومشروع «جبليات» هو عبارة عن فكرة تعاونيات لتكوين وإدماج نساء في وضعية صعبة، نسبة كبيرة منهن كن يمارسن التهريب بباب سبتة المحتلة، والمشروع المذكور قادر على السير إلى الأمام بدعم من الجميع، سيما وأن الأمر يتعلق بكرامة المرأة المغربية وإنقاذها من الاستغلال بأنواعه والمعاناة مع فوضى القطاعات غير المهيكلة.
تعليمات ملكية
ساهمت التعليمات الملكية السامية من الملك محمد السادس، بالاهتمام بطرح بدائل حقيقية عن التهريب والقطاعات غير المهيكلة، في التعجيل بخروج مشاريع متنوعة، منها منطقة الأنشطة الاقتصادية بباب سبتة السليبة، والمنطقة الصناعية بحيضرة بالفنيدق، والمنطقة التجارية بمرتيل، فضلا عن إحداث تعاونيات تحت اسم «جبليات» من تمويل ودعم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بعمالة المضيق، بتنسيق مع المؤسسات المعنية.
وحسب مصادر، فإن التعليمات الملكية السامية كانت سببا أيضا في الاهتمام بشكل كبير وإعطاء الأولوية للمشاكل الاجتماعية لـ«نساء الديوانة»، والإشراف على تكوينهن وتأطيرهن قصد الاندماج في سوق الشغل المهيكل، والحفاظ على كرامتهن ووقف استغلالهن واستفادتهن من حقوقهن التي يخولها الدستور، وتقدم المغرب في مجال تمكينهن من كل الفرص المتاحة للرجل وفق مبدأ المساواة.
واستنادا إلى المصادر نفسها، فإن تكوين النساء من ممتهنات التهريب المعيشي سابقا، في التعاونيات الإنتاجية، يتم من طرف مؤطرين وأساتذة مختصين في مجالات مختلفة. كما يقوم المكتب الوطني لسلامة المنتجات الغذائية بمراقبة الجودة الخاصة بأي منتوج، قبل الترخيص لعمليات البيع للعموم بالنقاط المحدثة لذلك.
وقامت السلطات المختصة بإصلاح وتهييء محطة القطار التاريخية بالفنيدق، لاحتضان تشبيك تعاونيات تنشط في مجالات متعددة، وعرض المواد التي يتم إنتاجها للعموم، في أفق تطوير العمليات التجارية والإشهار، وإمكانية تعميم التجربة على مستوى الإقليم وجهة طنجة – تطوان – الحسيمة، لما لها من أهمية في دعم الاستثمارات الصغيرة والتشغيل الذاتي.
بعد ربح رهان خروج مشاريع التعاونيات وبداية الإنتاج، وتأكيد مستفيدات على القطع مع التهريب المعيشي، لما لحقهن من ممارسته من مشاكل تتعلق بخرق حقوقهن، وقضايا الاستغلال والتحرش الجنسي، وحوادث الاكتظاظ والتدافع التي تسببت في مآس كثيرة، يبقى ربح رهان الاستمرارية وتوسيع الفئات المستفيدة بدعم من الجميع، هو المفتاح لمشاريع أخرى مماثلة لإدماج نساء في وضعية صعبة.
فاطمة القبايلي.. شمعة احترقت لتنير عتمة أجيال طانطان
طانطان: محمد سليماني
بلباسها المميز، الذي لم يكن له مثيل بطانطان، كانت تجوب المدينة طولا وعرضا ليس للتنزه وتمضية الوقت، بل لخدمة أبناء طانطان، في وقت كانت فيه أحياء المدينة تعد على رؤوس الأصابع. سيدة قادمة من شمال المغرب من أجل أداء وظيفة مهنية، لم تكن تعتبرها هي كذلك، بل جعلتها رسالة نبيلة، وفاتحة خدمة اجتماعية، لذلك لم تركن إلى وظيفتها المهنية كمعلمة بمدرسة «لالة مريم» الابتدائية، والتي لم يبق لها أثر اليوم، مرورا بمدارس متعددة، بل فتحت لنفسها مسارات أعمال إنسانية وخيرية ما زالت حيطان أحياء طانطان شاهدة على ذلك إلى اليوم.
نادرا ما تصادف أحد أبناء المدينة، حين يتحدث عن التعليم بهذه الربوع من الوطن، أن لا يذكر المرحومة فاطمة القبايلي، فهذه السيدة تتلمذ على يديها شباب كثر، وعلمت أجيالا كثيرة، يتربع أغلبهم اليوم على كراسي المسؤولية في عدد كبير من القطاعات بعدد من المدن الصحراوية، عرفت بدماثة الخلق، وتفانيها في العمل، وصرامتها في الأداء، وجديتها في العلم، لم تكن تعتبر ما تقوم به مهنة وواجبا مهنيا، بل جعلت من تلك الوظيفة وسيلة لاقتحام قلوب الصغار والكبار، ونقلهم من براثن الجهل والظلام، إلى أنوار العلم والتعلم. لقد بنت صروح التربية والتعليم في وقت كانت المدينة عرضة لهجمات عناصر البوليساريو، وكان الخوف يجتاح الأنفس والأفئدة، في حين ظلت مواظبة على عملها، ولم تفكر يوما في العودة إلى مسقط رأسها، بل ارتبطت بطانطان قلبا ووجدانا وعقلا، وظلت تحمل هذا الوفاء حتى لقيت ربها، قبل سنوات قليلة. ظلت بسلك التعليم إلى أن تقاعدت منه إداريا فقط، في حين ظلت تمارسه ميدانيا من خلال مدرسة «ابن خلدون» الخصوصية، لم لا وهي التي عاشت للآخرين ومن أجل الآخرين، فكانت مديرة لهذه المدرسة وقريبة من قلوب الصغار.
أما في المجال الاجتماعي والإنساني، فإن مناقبها وخدماتها تجل على الحصر، فعندما تفاتح أجيال السبعينيات والثمانينيات بطانطان، حول المرحومة القبايلي، فإنها تمطرك بمناقب وخدمات الفقيدة التي ما زالت محفورة في ذاكرة تلك الأجيال. فهي السباقة بالمدينة إلى احتضان الأطفال المتخلى عنهم، إذ كافحت بشكل كبير من أجل إيجاد فضاء يحتضن هذه الفئة التي وجدت نفسها عرضة للشارع، فلقبت بـ«منقذة الأطفال في وضعية صعبة»، بل كانت تقضي معظم أوقاتها معهم، تجالسهم وتستمع إلى أنينهم، تقضي الأعياد والمناسبات برفقتهم. لذلك لا ينكر إلا جاحد دورها الكبير في ترميم وتأهيل «المركب التربوي للا أمينة لحماية الطفولة» بالمدينة، وأدارت بحنكة وصبر وتجلد مفاصيله، حتى استوى على عرشه وأضحى معلمة لا تخطئها العين ولا تحيد عن ذكرها الألسن، دشنت بدايات عمله، وأسهمت في تأطير وتكوين الأطقم العاملة به، لحمل رسالة النبل والأخلاق لحماية الأطفال. ولا يزال المركز شاهدا على عطاءات الفقيدة المميزة، التي لن ينساها التاريخ.
يروي معارفها ومن تتلمذ على يديها، أنها كانت أول مترجمة محلفة للغتين الإسبانية والإنجليزية في طانطان منذ سنة 1978، وكانت أول مديرة لمدرسة للبنات في الصحراء مدرسة «لالة مريم»، ثم عضوا مؤسسا للاتحاد النسائي المغربي بطانطان، كما كانت سباقة إلى تحرير أعمدة ومقالات حول مواضيع مرتبطة بالمرأة والطفولة، بعدد من الجرائد الورقية الوطنية. عملت الفقيدة مستشارة تربوية للمرصد الوطني لحقوق الطفل، كما قادتها هذه العطاءات المميزة في مجالات النبل والإنسانية إلى تتويجها بالحصول على وسام ملكي من درجة فارس، لاهتمامها بالمجال التربوي والإنساني.
نورة وسمية.. خياطتان من طانطان تطمحان للوصول إلى كل المدن
طانطان: محمد سليماني
شكلت سنة 2018 منعطفا حاسما في مسار الشابتين نورة مبروك، وصديقتها سمية المنجي، ذلك أنها كانت سنة فاصلة بين مرحلة العطالة، بعد الحصول على شهادات جامعية ومهنية، ومرحلة الولوج إلى عالم الشغل.
بعد حصول نورة على الإجازة في التاريخ سنة 2013، ظلت تتلمس طريقها نحو إثبات الذات، غير أن طموحها اصطدم مع وجودها في مدينة صغيرة هي طانطان، المحدودة من حيث التركيبة البشرية والنمو الديموغرافي، والقدرة الشرائية لسكان أغلبهم من الطبقة الفقيرة، ومن عمال معامل تصبير السمك ومتقاعدي القوات المسلحة، لذلك لم تجد بدا من الاشتغال في وكالة لتحويل الأموال. رغم ذلك ظلت تحاول إيجاد فرصة لولوج عالم المقاولة، إلى أن اهتدت بعدما أوحى لها أحد الأشخاص أن بإمكانها وضع طلبها لدى عمالة الإقليم، من أجل الاستفادة من مشروع مدر للدخل في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. هناك كانت البداية، حيث تمت الموافقة على مشروع للخياطة بشراكة بينها وبين صديقتها سمية، الحاصلة على دبلوم في المحاسبة من التكوين المهني سنة 2010.
تحكي نورة في لقاء مع «الأخبار» أنها لم تكن تعرف عن مجال الخياطة والفصالة أي شيء، وكذلك زميلتها سمية، إلا أن الطموح والرغبة في إثبات الذات وتحقيق دخل قار يقيهما حر السؤال، والاشتغال لدى الآخر، كان عاملا حاسما لهما في القبض على المشروع بالنواجذ. في البداية كانت الشابتان تخصصان ورشتهما الموجودة بشارع محمد الخامس، لخياطة كسوة نسائية تُلبس في الصحراء أسفل «الملحفة»، وهي كسوة يشترط فيها تناسق لونها مع لون الملحفة، إلا أن هذا المنتوج لم يلق إقبالا كبيرا، حيث ظلت المقاولتان تجوبان شوارع المدينة تعرضان منتوجهما على أصحاب المحال التجارية المتخصصة في بيع ملابس النساء، غير أن صدمتهما كانت كبيرة عندما أخبرهما أصحاب المحلات أنهم يتعاملون مع باعة بالجملة بمدينتي العيون وكلميم، إضافة إلى المعاملة المالية بالتقسيط مع هؤلاء، وهو الأمر الذي سبب لهما إحباطا كبيرا، خصوصا وأنهما في البداية.
لم يقف طموح نورة وسمية عند هذا الحد، بل فكرتا مليا في طريقة أخرى لإبقاء المشروع على قيد الحياة، لأن أي إحباط يعني مباشرة إقبار المشروع، وبالتالي العودة إلى العطالة من جديد. لذلك قامتا بتغيير الإنتاج، نحو خياطة البذلات الرياضية وألبسة عمال الإنعاش والمياومين والحراسة الخاصة أمام الشركات والمؤسسة، والزي الموحد للمدارس، وبذلات الممرضين والأطباء ومتدربي معاهد التمريض. مغامرة جديدة اقتحمتها المقاولة، رغم أن صاحبتيها لم يكن لهما سابق معرفة بمجال الخياطة، وليس لهما أي تكوين فيه، اللهم ما تعلمتاه من أيدي العمال، الذين يتم استقدامهم للورشة للعمل بين الفينة والأخرى. تحقق التحدي وأصبح الحلم واقعا، مع الاتفاق مع المديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بطانطان، عندما تم قبول ورشتهما لخياطة الزي الموحد للمدارس الابتدائية، في إطار الدعم الاجتماعي الذي تخصصه الوزارة للمتعلمين. تروي نورة، أن الزي الموحد شكل لهما انطلاقة قوية للوجود في السوق، وتحقيق دخل قار لهما ولباقي مستخدمات الورشة، كما شكل لهما هذا المنتوج بداية التعرف عليهما بشكل أدق، إذ منذ ذلك التاريخ وهما يسيران ورشتهما بشكل جيد.
ولأن مدينة طانطان صغيرة، ولا يمكنها أن تستوعب ورشة تطمح إلى المزيد من الإنتاج، إضافة إلى أن مسؤولي المدينة لم يقتنعوا بعد بالمنتوج المحلي لأسباب غامضة، بدأت نورة البحث عن آفاق جديدة، بعد عودتها من وعكة صحية صعبة ألزمتها الفراش لمدة طويلة، حيث انتقلت إلى مدينة العيون حاملة معها نماذج من المنتوجات التي أبدعت فيها أنامل بنات طانطان، وبدأت في حملة ترويجية لدى عدد من الشركات والمؤسسات العمومية والخاصة، محاولة إقناع أصحابها بالتعاقد مع الورشة لإنتاج الألبسة والبذلات التي تحتاجها لعمالها، فكانت تغادر مقر إقامتها منذ الساعة التاسعة صباحا، وهي تدلف بين الشركات والمؤسسات إلى الخامسة مساء، محاولة الحصول على عقود ترفع الورشة من الإنتاج المحدود إلى الإنتاج الكبير، الأمر الذي مكنها من إقناع بعض المسؤولين بالعيون، وفي مقدمتهم مسؤولو جماعة العيون بإنتاج بذلات للعمال والحراس، إضافة إلى بعض الشركات الأخرى التي قبلت عروض الورشة، وبدأت تتعامل معها.
ورشة الخياطة والفصالة التي تديرها نورة وسمية تسير اليوم بخطى ثابتة من أجل الوصول إلى كل مدن المملكة، ومنافسة الشركات الكبرى التي تصنع المنتوج نفسه، الذي تبدع في إنتاجه أنامل 6 مستخدمات قارات، إضافة إلى مستخدمات أخريات يتم الاستعانة بخدماتهن، عندما يكون الطلب كبيرا وفي مدة وجيزة. الجميع هنا يحقق دخله القار من عائدات الورشة، سيما وأن بعض المستخدمات يعلن أسرهن وأبناءهن من دخلها، كما أن الشابتين نورة وسمية تصران على التحدي والاستمرارية، حيث تعولان على الثقة في النفس، وجودة المنتوج الذي يسوقانه، فهما لا تطلبان الصدقة ولا الإحسان، بل تناشدان المجالس المنتخبة والمؤسسات العمومية تمكينهما من المشاركة في المنافسة على صفقات الألبسة وأزياء العمال، بدل تحويلها إلى المعارف والنافذين عن طريق سندات الطلب، الأمر الذي يحرمهما من الاستفادة.