نزيف تاء التأنيث
جهاد بريكي
تقترب الأيام الرمادية، فيزحف نحوي حزن ممزوج بغضب لا سبب لهما البتة. يتحول العالم في عيني إلى حفرة مظلمة، والناس إلى ضوضاء لا تحتمل، فأعرف أنه آن لدورة الأنثى أن تبدأ.
وجهي في المرآة يعتريه صفار كئيب، وجسدي يحملني كما يحمل يم متعب جثة جندي مجهول. انقباضات شبه مؤلمة تنبثق من عضلاتي كلها فتجبرني على التوقف لثوان قليلة أتحسس بطني وخصري فيتأكد حدسي، رحمي يطلق إشعار إنذاره الشهري.
تحضيرات علي تجهيزها، فوط صحية يلفها لي البقال كما يلف بائع الحشيش بضاعته لسماسرته، يمدها بحرص كبير لي غاضا بصره عني. وألبسة غامقة اللون تحميني الفضيحة في حال فشلت الفوط في إدارة الأزمة. أدوية ضد الألم، ضد التشنج، وبعض المكملات الغذائية لتخفيف التوتر والانزعاج. حمام دافئ وزيوت تدليك وفوط قطنية تغطس في مياه ساخنة وتوضع حول البطن لكبح آلام الجسم الساخط. شراب دافئ لتهدئة جهاز هضم عليل ورغبة في القيء دائمة.
شهية مجنونة تطلب الشيء وتنفر منه في الآن نفسه، روائح أطعمة لا وجود لها تستقر داخل الأنف، وعينان تنتظران مرور قطة بيضاء أو سقوط ورقة خريف لتنخرطا في نزوة بكاء عارمة. أعصاب فوق صفيح ساخن تبحث عن سبب تافه لتختلق أزمة تتجاوز أزمات دول الخليج ولبنان.
نزيف، طيلة أيام معدودات، يعيق الحركة والنوم والجلوس، خوف دائم من أن يظهر شيء منه على الملابس فتتحول الأنثى النازفة إلى حديث الزملاء وأضحوكتهم. أحيانا أسأل نفسي دون نية جادة في الحصول على جواب: ما ذنب الأنثى لتنال عقابا بشعا دوريا كهذا؟ ينزف رحمها وتحترق أعصابها وتخبو روحها دون توقف، حتى عندما يقرر جسمها التخلي عن عادته الشهرية هذه يرسلها لقمة سائغة لسن يدعى سن اليأس. حياتها نزيف ويأس.
وأنا مراهقة أدرس علوم الحياة وأكتشف بالتفصيل رحلة الإنسان التي يقطعها من العدم نحو الحياة، أخبرتني قريبة لنا بأن الدماء التي تسيل مني نجاسة، وخلال هذه الفترة، علي أن أحرص كل الحرص على النظافة حتى لا أؤذي من حولي، حينها استنتجت بعقلي الصغير أن الإنسان أصله نجاسة أيضا مادام يأتي من المكان نفسه وبفضل النزيف نفسه.
تعمل الإناث ويدرسن ويربين الأطفال ويرتبن البيوت وهن نازفات، وأرحامهن منقبضة وعضلاتهن متشنجة وأعصابهن مشحونة ترمي بشرر. تختلف الأعراض من واحدة لأخرى، فمن كان حظها جيدا لا يصيبها سوى بعض القلق، ومن كانت مشؤومة أصبح موعد الطمث بالنسبة لها موعدا حميميا مع الجحيم، وقد يصل بها الأمر خلاله للهرع إلى أقرب مستشفى تتوسل العلاج والرعاية.
الغضب الدوري صار صديقي الذي أوفر الجو المثالي لقدومه، أستقبله كما تستقبل أم جنينها فأدلـِّلُـه وأهادنه، أنفذ رغباته وأمتثل لأوامره. أسمح لنفسي بلعن ما يمر بمحاذاتها والسخرية اللاذعة ممن يتكلم أمامها، ألقي التهم على من أشاء وأحمل المسؤولية من أريد، ألتهم الحلويات ومشتقاتها وأبتاع ما يفيد وما لا يفيد، أبكي كزوجة تعيسة وأضحك كمطلقة تخلصت من سجانها. أعرف أن ما يحصل معي ليس ذنبي ولا جرمي. أنا كائن نازف شاء قدره أن تنفجر مشاعر الغضب والحنين والوحدة والألم كلها في وجهه دون سبب. مهمتي رعاية هذه المرأة التي تواجه طبيعتها وتعارك جسدها وعقلها، فتحن لحبيب تركته طواعية منذ زمن سحيق وتنفر من حبيب شغلها عن العالمين. أميل للعزلة وتخنقني الوحدة، أبحث عن الناس وأنزعج وسط الجماعة، قلبي يخفق خائفا من شيء لا يعلمه وضحك طفولي يملأ شدقي لسبب لا وجود له.
قدر النساء الدماء السائلة والدموع النازلة، يخجلن من سوائلهن ويتجاهلن آلامهن، يخرجن للعالم يقدمن له الرعاية والاهتمام وفي داخلهن تقبع طفلة جريحة تنزف دما ودمعا دافقين.