شوف تشوف

اقتصادالرأيالرئيسية

من يبطئ النمو

 

 

 

أحمد مصطفى

 

 

في تقريره الأخير حول آفاق الاقتصاد العالمي، رسم البنك الدولي صورة ضبابية لنمو الاقتصاد العالمي هذا العام، على الرغم من أن أرقام توقعاته جاءت أفضل من تلك التي أعلنها في تقريره السابق، مطلع السنة.

وأرجع البنك تباطؤ النمو الاقتصادي في النصف الثاني من العام الحالي إلى 3 عوامل، هي ارتفاع أسعار الفائدة الأساسية في أغلب دول العالم، واستمرار تأثير أزمة وباء كورونا وحرب أوكرانيا.

وتظل تلك التوقعات والتقديرات، من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وشركات الاستشارات والبنوك الاستثمارية، مهمة للمستثمرين وصانعي القرار الاقتصادي، على الرغم من أنها أصبحت محل شك كبير مع تكرار فشلها وتطور الأمور في الواقع الفعلي عكسها. فعلى مدى أكثر من عام، اضطر صندوق النقد الدولي إلى تعديل توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي ربما خمس مرات (بدلا من تقريرين في العام)، لأن الأرقام الحقيقية للنشاط الاقتصادي جاءت عكس التقديرات.

ومع أن التوقعات، كأي تقدير مستقبلي يعتمد على نماذج تحليل تفترض سير الأمور طبق أنماط معينة معروفة سلفا، تظل توقعات تحتمل الصواب والخطأ، إلا أن تكرار فشلها جعل الثقة فيها تتراجع. فمنذ أزمة وباء كورونا عام 2020، أصبح من الصعب تطبيق نماذج التحليل تلك على الاقتصاد العالمي الذي أصيب بقدر هائل من «التشوه»، نتيجة الإغلاق الذي عزز اختلالات هيكلية لم يتم إصلاحها منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.

وبالنظر إلى تقرير البنك الدولي الأخير، نجد أنه يستند في استبعاده احتمالات الركود هذا العام إلى نمو قوي بالولايات المتحدة والصين، أكبر وثاني أكبر اقتصاد في العالم. ومع أن مرونة الاقتصاد الأمريكي قد تمكنه من تفادي الركود، إلا أن الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأمريكي ما زال يرى احتمالا للركود، قبل نهاية العام.

أما الأسباب التي ذكرها التقرير كمثبطات للنمو العالمي، فهي في الحقيقة «استسهال تبسيطي» لمشاكل الاقتصاد العالمي الجذرية التي يتفادى الجميع التصدي لها. فارتفاع أسعار الفائدة يأتي ضمن دورة تشديد نقدي منطقية، وإن تأخرت لفترة طويلة، وبالتالي يمكن لأي اقتصاد سليم ومتين أن يتحملها ويتعامل معها.

إن كان صحيحا أن تأثير أزمة وباء كورونا لم ينته بعد، فإن اعتباره سببا أساسيا لمشكلة الاقتصاد العالمي الآن يعد مبالغة إلى حد ما. فما حدث في عامي 2020 و2021 كان «تعطيلا مقصودا» للاقتصاد وليس ركودا طبيعيا، وبالتالي فالخروج منه وتحقيق الانتعاش ممكن، إذا تصرفت السلطات بشكل صحيح. أما حرب أوكرانيا فهناك منذ اليوم الأول مبالغة مقصودة في استخدامها شماعة لأي فشل اقتصادي هنا أو هناك. وحتى الحظر الأوروبي على واردات الطاقة من روسيا لم يؤثر كثيرا في أسواق الطاقة العالمية، سوى بتعديل اتجاهات انسياب النفط والغاز. وإن كان ذلك أحدث بعض الاضطرابات فقد تم تجاوزها الآن، والدليل على ذلك انخفاض أسعار النفط من 120 دولارا للبرميل العام الماضي إلى نحو 70 دولارا الآن. وكذلك انخفاض أسعار الغاز الطبيعي بأوروبا إلى مستويات متدنية جدا.

وربما كان ما يمكن أن يؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي إلى حد احتمال الركود فعلا، هما عاملان أكثر أهمية: الديون والتجارة. بالنسبة إلى الدين العام المتنامي، خاصة بالدول الصاعدة، قد يكون لارتفاع أسعار الفائدة تأثير سلبي كما ذكر تقرير البنك الدولي. فذلك يرفع كلفة خدمة الدين ويجعل أغلب الدول غير قادرة على الاقتراض لتمويل إعادة هيكلة ديونها، ناهيك بالاقتراض للاستثمار في توسعة النشاط الاقتصادي وتحقيق النمو. ومن يتابع أسواق السندات، التي لا تحظى غالبا بالتغطية الإعلامية التي تتابع أسواق الأسهم، يدرك أن هناك فقاعة دين عالمي تغلي وقد تنفجر في أي لحظة.

المشكلة الثانية هي التراجع المستمر في التجارة العالمية، والتي لم تنتعش كما كان متوقعا بعد أزمة كورونا. يمكن للبعض اعتبار تراجع التجارة ناجما عن تباطؤ النمو الاقتصادي، لكن الشواهد في العامين الأخيرين تشير إلى أن عدم انتعاش التجارة العالمية، ربما كان سببا أكثر منه نتيجة للتباطؤ. وبشكل أكثر تحديدا، فإن التوسع الهائل في العقوبات الاقتصادية الأمريكية والغربية على روسيا أثر سلبا على التجارة الدولية. إنما الأهم والأخطر هو المحاولات الأمريكية- البريطانية لخنق الصين اقتصاديا. وتمارس واشنطن ولندن ضغطا على الحلفاء الغربيين، لزيادة القيود على التعامل التجاري مع الصين. ولم يبدأ ذلك مع حرب أوكرانيا واتهام أمريكا والغرب بكين بالوقوف إلى جانب روسيا، بل بدأ من قبل بالإجراءات الحمائية التي تتخذها الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما للحد من الصادرات الصينية إليها وحظر المنتجات الصينية. وزادت وتيرة ذلك مع أزمة كورونا واتجاه الولايات المتحدة وغيرها إلى توطين سلاسل التوريد، بغرض تفادي الاعتماد على التجارة مع الصين.

على مدى عقد أو أكثر قبل أزمة كورونا، كان الاقتصاد الصيني قاطرة نمو الاقتصاد العالمي مع توسعه بأكثر من عشرة في المائة سنويا، وحتى الآن لم يفلح اقتصاد آخر بما فيه أكبر اقتصاد في العالم بأمريكا في تولي ذلك الدور. ومن شأن تثبيط النمو الصيني عمدا، من خلال عزل بكين اقتصاديا كما تريد واشنطن ولندن وغيرهما أن يستمر تراجع التجارة العالمية وبالتالي تباطؤ الاقتصاد، حتى لو زادت بكين تعاملاتها مع أسواق أخرى بالشرق الأوسط وإفريقيا، فإن فقدان الأسواق الأمريكية والأوروبية يعني خصما هائلا من النمو الصيني والعالمي.

 

نافذة:

ربما كان ما يمكن أن يؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي إلى حد احتمال الركود فعلا هما عاملان أكثر أهمية الديون والتجارة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى