شوف تشوف

الرأيالرئيسية

من محمد علي باشا إلى الملك عبد العزيز

في نهاية عام 1816 م مات طوسون بن محمد علي باشا من جراء حمى أصابته، وكانت حملة اجتثاث الوهابيين قد بدأت منذ عام 1811م، فعين محمد علي باشا ابنه إبراهيم قائدا للحملة، واستطاع إبراهيم أن يغلب الوهابيين وأن يطاردهم، حتى وصل عام 1818 م إلى عاصمتهم الدرعية. وبعد حصار دام ستة أشهر استسلمت له. وعندما نجح إبراهيم باشا في قهر الوهابيين، عقد مؤتمرا بين علماء الأزهر و500 من علماء الوهابية في الدرعية. واستمرت المناظرات لمدة ثلاثة أيام بين الفريقين، وإبراهيم بن محمد علي باشا يضبط غيظه في غاية الصبر ويده على السيف. وفي نهاية المناقشات كان رأي الوهابيين أنهم على الدين الحق، وما عداهم حطب جهنم هم لها واردون.

توجه إبراهيم باشا إلى هؤلاء المتشددين، فقال: أريد أن أسألكم سؤالا: هل تعلمون أن الجنة عرضها السماوات والأرض؟ قالوا: نشهد إن ذلك حق. قال: وفي هذه الجنة الفسيحة، أليس هناك متسع ولو في ظل شجرة واحدة لغيركم؟ قالوا: لا، ليس هناك متسع لأحد من الكافرين. وهنا كان الغيظ قد قفز عنده إلى الحد الذي لا يضبط، فأمر بقتلهم جميعا ودفنهم في حفرة جماعية واحدة.

وهكذا اجتمع في ساحة الموت هذه عقلية متشددة وحاكم ظالم، لا يفسح أحد الطرفين للآخر مجال للحياة.. فالجنة للوهابيين فقط والدنيا لإبراهيم باشا فقط، فإن وجد الأول مات الثاني وانتفى.. وبعد قتل علماء الدرعية، أرسل عبد الله بن سعود حاكمها إلى إستنبول، حيث نفذ فيه حكم الإعدام، وفي يونيو  1819 م دمر إبراهيم الدرعية، كما فعلت روما مع قرطاجنة فأصبحت مجموعة من الأطلال.

وهذه القصة تتكرر مع الملك عبد العزيز والمتشددين من نفس جماعته الذين رباهم على يده، ففي يوم وقف أحدهم فقال: إنك تجر إزارك كبرا. وكان الملك عبد العزيز قد لبس ثوبا طويلا فنظر إليه ماذا يفعل معه، ولم يجد بدا من استيعاب أصحاب العقول الضيقة بفهم أوسع ورحمة أكبر، فالتفت إلى من حوله وقال: هات لي المقص، فلما حضر سلمه إلى صاحب الورع البارد والعقل الضيق، فقال: عليك بالثوب فقصه بما تراه مخالفا للسنة. فقام الرجل فشوه الثوب، فصار ما صار لملكة سبأ حينما كشفت عن ساقيها.

 ويروي آرمسترونغ قصة مشابهة، ففي يوم رآه أحد المتشددين فلم تعجبه شواربه، وقال: قد جاء في الحديث «حفوا الشوارب واعفوا عن اللحى»، وشواربك مخالفة للسنة، فالتفت الملك عبد العزيز مرة أخرى وقال لمن حوله: هاتوا لي المقص وقص هذه المرة ليس ثوبه، بل شواربه استرضاء واحتواء لأنصاف المجانين.

 وفي ليلة كان عنده وفد أجنبي، فحضرت صلاة العشاء، فقام أحدهم فأمَّ القوم وصلى خلفه الملك عبد العزيز، فما كان منه إلا أن قرأ آية «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون». فما زال يكررها، حتى تعجب القوم. فعرف الملك أنها رسالة سياسية في الصلاة، فقام إليه بعد انتهاء الصلاة وصرخ به: أيها الخبيث مالك وللسياسة؟

ونحن نصلي أحيانا خلف إمام فيمر بآية العذاب فيكررها، وكأنه يتشفى بالانتقام من المصلين. والآيات فيها ذكر الرحمة والعذاب، ولكن المتشددين لا يكررون إلا آيات العذاب.

ويروي «علي الوردي»، في كتابه «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث»، عن مأزق ابن سعود: أن الإخوان كانوا من البداية غير راضين عنه، «ينتقدون ابن سعود، لكونه يلبس العقال بدلا من العمامة، ويطيل شاربه وملابسه».

والمتشدد يصل في حلقة التضييق حدا يختنق فيه هو في النهاية.

واتبع ابن سعود معهم في البداية مبدأ التساهل والتسامح، على أمل أن تخف غلواؤهم مع الزمن، فقال عنهم: «الإخوان يجب احتمالهم. وأما العصبية والشدة، فالزمن كفيل بتخفيف حدتها»، ولكن ما وجده أن الزمن لم يزدهم إلا إيغالا في القسوة والتطرف، حتى قضى عليهم بحد السيف، كما فعل السلطان محمود مع الإنكشارية فحصدهم بالمدفعية.

ويبدو أن البيئة لها دورها في تكوين التشدد، فالصحراء محدودة معزولة وهي غير مدن الساحل، التي ترى المتباينات وتحتك بالحضارات. ومن نشأ في بيئة معزولة كان عقله مغلقا في صندوق، ومن نشأ في بيئة متفتحة تحمل المخالف.

و«الغزالي» تكلم في كتابه «فقه السنة»، الذي لمس فيه الجدار الصاعق عن شيء اسمه «الفقه البدوي».

والقرآن منّ على يوسف وإخوته أن أحسن بهم فأخرجهم من البدو، كما أخرج يوسف من السجن.

وابن خلدون عقد فصلا خاصا في علاقة الغذاء والمناخ بأمزجة الناس. والحديث اعتبر أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوبا، لأن السكينة والوقار في أهل الغنم والخيلاء والفخر في أهل الإبل.

وإيران تشيعت ليس بسبب عقلي، بل بتميز حضاري، فلم يكن أمام الفرس في وجه العرب إلا أن يأخذوا حزب المعارضة. وهناك علاقة بين الجغرافيا والدين، فمصر كانت في يوم مركزا للدعوة الفاطمية، وليس فيها اليوم فاطمي واحد، لأن الناس لا يمكن أن يعيشوا إلا على حواف النيل، أما في سوريا والعراق فهناك العديد من الجبال التي تساعد على الانعزال، وهكذا نشأت طوائف مثل الدروز والعلويين واليزيديين. وما سيمزج الناس فعلا هو موجات الحضارة التي لا تسمح بالشرنقة. وعندها سوف يتسامح الناس بين بعضهم أكثر، فيتعلموا التعددية واحترام الآخر مهما اختلف، دون الحاجة إلى الاختباء في الجبال البعيدة.

خالص جلبي 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى