من سيلقح سكان تندوف؟
الانطلاق الرسمي لحملة التلقيح ضد وباء كورونا في المغرب، وفي دول أخرى من بينها بريطانيا ودول أوربا وشرق آسيا، يدحض كل أنواع التهويل التي سبق لبعض «العشابين» إطلاقها، بخصوص اللقاح الذي صادقت عليه رسميا كبريات مراكز الأبحاث، التي تجر وراءها مصداقية عمرها أزيد من 70 سنة.
ليست هذه المرة الأولى التي تنطلق فيها حملة تلقيح ضد وباء لم تسبق للبشرية معرفته، فقد كانت الكوليرا بالشهرة نفسها لـ«كورونا»، وحملة التلقيح ضدها قادتها الحكومات عن طريق توظيف الجيوش لنصب الخيام، وإجبار الجميع على أخذ نصيبهم من الحقنة السحرية التي حولت «الكوليرا» إلى مجرد حكاية تغلب عليها العلم.
هذا اللقاح امتحان حقيقي للدول، وسنرى ماذا ستفعل الجزائر لسكان مخيمات تندوف، الواقعة في منطقة التماس الحدودي مع المغرب. إذ لتوزيع اللقاح يجب أولا إحصاء السكان، وهذا المطلب ظلت الجزائر تتهرب منه، منذ سنة 1977. أربعة عقود من المماطلة والغموض والتهويل، والحمد لله على نعمة المنظمات الدولية، التي وضعت لوائح سابقة بعدد سكان المخيمات من أطفال ونساء، في وضعيات صحية مقلقة.
يتعين الآن إدماج هؤلاء في حملة التلقيح العالمية. وإذا تم استثناء سكان المخيم من طرف الحكومة الجزائرية، بصفتها المسؤول الأول عن مأساة هؤلاء الناس وانعزالهم، فإنها سوف تصبح أمام جريمة ضد الإنسانية، يجب أن يجر بموجبها رئيس الدولة إلى محكمة العدل الدولية.
ولكي نعرف جيدا ما يقع، وما وقع بالأحرى، في تلك المنطقة المنسية، تكفي العودة إلى ما حدث سنة 1976، ففي أكتوبر من ذلك العام قدم المغرب، للمرة الأولى، طلبا رسميا للمفوضية العليا للاجئين بإحصاء سكان مخيمات تندوف.
وبعد حوالي أربعة أشهر، بعث المفوض السامي للأمين العام للأمم المتحدة وقتها تقريرا يقول فيه إنه يأمل أن تكون مبادرة هذا الإحصاء، بداية حل لأزمة المحتجزين في المخيمات.
ما وقع أن المفوض السامي الذي يمثل الأمين العام للأمم المتحدة قام برحلات مكوكية حتى حدود ماي من السنة ذاتها، للخروج بمخطط لتنظيم الإحصاء في تندوف. وافق المغرب، بحكم أنه أول من وضع الطلب لإجراء الإحصاء، ووافقت موريتانيا أيضا، لكن الجزائريين ظلوا رافضين لكل محاولة لمعرفة ما يقع هناك بالضبط.
كيف نستطيع اليوم إقناع الجزائريين بضرورة تلقيح هذا التجمع البشري الكبير، في الخيام المعزولة وسط الصحراء. حتى أن منظمة الصحة العالمية سوف تكون متعارضة مع توصياتها، إن هي أغمضت عينها على الوضع الصحي المقلق هناك، سيما وأنه تم تسجيل إصابات بفيروس كورونا وسط مخيمات تندوف، خلال فترة الحجر الصحي الشامل.
عندما افتضح أمر الغش والتلاعب في المساعدات الغذائية الموجهة إلى سكان المخيمات سنة 2004، وهو الملف الذي انفجر وسط دهاليز مقر برنامج التغذية العالمي، أصبح وضع المخيمات أكثر تعقيدا، خصوصا وأن العالم كله يراقب التجاوزات الإنسانية الحاصلة في تلك النقطة الحدودية. وسبق لتقارير دولية أعدها موظفو المنظمات الإنسانية، تأكيد تفضيل جل سكان المخيمات الذهاب إلى المغرب بحثا عن مستقبل أفضل لهم ولأبنائهم، سيما وأن من بين سكان المخيمات مختطفون مغاربة كانوا يبحثون عن العودة إلى المغرب بأي طريقة. ولهذا السبب بالضبط لا تريد الجزائر إجراء إحصاء شامل في مخيمات تندوف، لأن ملف اختطاف مغاربة قسرا، فوق التراب المغربي، واحتجازهم في المخيمات، سوف يطفو على السطح، بعد أن حاولت جاهدة دفنه في الرمال.
فيروس كورونا أدق ملايين المرات من حبة رمل، لكنه استطاع تعرية ما يقع على الحدود. وفي الوقت الذي انطلقت فيه حملة التلقيح ضد الفيروس عندنا، لوضع حد لهذا الفصل الرتيب من حياة سكان الأرض خلال القرن الحادي والعشرين، لا يزال البعض يبحثون عن ألف طريقة لتجنب التلقيح، وكأنهم يحنون إلى العصر الحجري الذي كان يُدفن فيه الناس دون أن يعرف أحد حتى بخبر ولادتهم.