من خشبة المسرح إلى عالم السياسة
قياديون ومناضلون دخلوا السياسة من بوابة الفن
ليس غريبا أن يمارس السياسي هوايات أخرى قبل أن يجلس في غرفة القيادة، فأشهر الزعماء كان لهم عبور في المسرح أو السينما دون أن يلفتوا نظر الناس، قبل أن تسطع نجومهم في سماء السياسة.
لقد حقق فيلاديمير زيلينسكي فوزا ساحقا في الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا على الرئيس المنتهية ولايته بترو بوروشنكو، لكن الطريف أن زيلينسكي قبل تقلده لهذا المنصب كان يشتغل في مجال التمثيل، ويعد من أشهر نجوم الكوميديا في أوكرانيا، والأكثر طرافة هنا في قصة ذلك الفنان الذي أصبح رئيسا أنه قدم دورا في المسلسل الكوميدي «خادم الشعب» حيث جسد شخصية مدرس تاريخ، قادته الصدفة ليصبح رئيسا للجمهورية، وهو الذي لم تكن لديه خبرة، ولا تاريخ سياسي معين، وبذلك يكون زيلينسكي قد حول المسلسل الكوميدي من مسلسل إلى واقع حقيقي.
في المشهد السياسي العالمي نماذج عديدة لشخصيات شقت طريقها نحو السلطة مرورا من ركح المسرح أو بلاطوهات السينما، فالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قدم بعض الأدوار الهامشية ككومبارس في عدد كبير من الأفلام والمسلسلات، وقبله قدم الرئيس رونالد ريغان أدوارا مغمورة في السينما الأمريكية، وفي الفلبين تحول ممثل يدعى جوزيف استرادا إلى رئيس للبلاد.
على المستوى العربي، مارس جمال عبد الناصر التمثيل مسرحيا، وشارك في تشخيص مسرحية “يوليوس قيصر” لشكسبير، وعلى المنوال نفسه شارك محمد أنور السادات الذي أدى أعمالا فنية مطربا وممثلا ومجودا للقرآن الكريم، وغيرهما من الزعماء الذين كان لهم عبور فوق الركح.
في المغرب، يمكن الجزم بأن أغلب السياسيين المغاربة الأوائل مارسوا المسرح، بحكم انتمائهم للهيئات الشبابية وفصائل الكشفية، وفيها مارسوا المسرح وشاركوا في أعمال يذكرها التاريخ المسرحي لبلادنا. لكن هناك أسماء احترفت المسرح قبل أن تمارس عليها السياسة جاذبيتها.
في ملف «الأخبار» لهذا الأسبوع، جرد لبعض الأسماء التي سجلت حضورها في المسرح قبل أن تنتقل إلى مسرح السياسة.
حسن البصري
+++++++
المعطي بوعبيد يجسد أدوارا دينية بفرقة أشبال البدوي
شاءت الأقدار أن يعيش المعطي بوعبيد طفولته وشبابه بين المدينة القديمة ودرب السلطان، حيث تجرع مرارة حياة اليتم وهو في مرحلة المراهقة. كان من الصعب على شاب يافع في مرحلة صعبة من حياته أن يتلقى صدمة قوية تتمثل في فقدان أمه حليمة وعمره لا يتجاوز الـ13 سنة.
في درب مارتيني، انخرط الفتى في ممارسة كرة القدم وبالموازاة معها كان يحرص على مشاركة فرقة مسرحية أعمالها الفنية. كان يصر على ملء مساحة الفراغ في حياته اليومية، خاصة وأن الزوجة الثانية للوالد كانت قاسية على المعطي، ولم تنفع تنبيهات والده في الحد من معاملات اتسمت بالصرامة، ما دفع الفتى المعطي إلى مغادرة درب السلطان طالبا اللجوء الاجتماعي لدى جدته، أم والدته الفقيدة، في المدينة القديمة وقضى في ضيافتها عامين كاملين رافضا العودة إلى البيت الذي ولد فيه.
كل هذه الإكراهات لم تقف في وجه الشاب اليتيم، فقد حرص على الجمع بين الدراسة والرياضة، واكتسب بانفصاله روح المبادرة، فانضم في شبابه إلى نادي اليسام ولعب إلى جانب لاعبين مغاربة كالعربي بن مبارك، وعرف عنه رفاقه عشقه للكرة ومهاراته في خط وسط الميدان، قبل أن تجره الدراسة من الكرة.
وحسب الفنان عبد القادر البدوي الذي عاش في الحي نفسه (مارتيني)، فإن فترة شباب المعطي كانت تؤسس لشخصية منفتحة مقبلة على الحياة، الدراسة الكرة، الشغل والمسرح، «تعرفت بشكل مباشر على المعطي بوعبيد في سنة 1947، لأننا كنا أبناء نفس المنطقة، حيث كان يسكن بحي درب ليهودي، القريب جدا من حي الأحباس، وكنا نلعب كرة القدم جميعا في نفس الملعب. ويمكن القول إن لقائي الأول بالمعطي بوعبيد كان في إطار رياضي، ثم انتقل في ما بعد إلى المسرح. فكان صديقا حميما لي، رغم أنه كان يكبرني ببضع سنوات. وكان في هذه الفترة من الأعضاء الشباب بحزب الاستقلال»، كما جاء في حوار للبدوي صادر في جريدة الاتحاد الاشتراكي. وهو ما زكاه المقاوم مصطفى بن عثمان الحسيني، أحد رجالات جيش التحرير، حين قال إن المعطي كان يقضي سحابة يومه في الأنشطة الموازية كالكرة والمسرح، بل إنه جعل من الخشبة فضاء للمقاومة ضد المستعمر الفرنسي، حيث انخرط مع محمد لمرابط في فرقة أشبال المسرح للبدوي: «ومن الشباب الذين ساعدهم لمرابط على إتمام دراستهم المعطي بوعبيد والدكالي وغيرهما ولكن لا يمكن أن نذكر عمل المرحوم محمد المرابط، النقابي الوطني، ضمن شركة التبغ، دون أن نذكر داره التي كانت دار الوطنية». مضيفا أن المعطي بوعبيد جسد دور أمية بن خلف، في مسرحية دينية».
الزيادي مؤسس فرقة العروبة المسرحية يصبح مستشارا للبصري
يعد عبد السلام الزيادي من مؤسسي فرقة العروبة للمسرح، إذ كان وراء ميلاد هذا الصرح الفني بمنطقة درب السلطان وتحديدا في دار الشباب بوشنتوف، حيث برزت فرق أخرى كفرقة الشهاب المسرحية التي كان يديرها محمد التسولي، وفرقة الأخوة العربية التي كان يديرها المرحوم عبد العظيم الشناوي وبالطبع مسرح البدوي الذي كان حضوره لافتا على مستوى طرح القضايا المجتمعية بنفس نقدي حاد لم تسلم من بعض جوانبه السياسات المتبعة في تدبير الشأن العام.
كانت فرقة العروبة بمجموعتها المتميزة تشتغل على عناوين لمؤلفين كبار، وكان الزيادي حريصا على الدفع بها إلى واجهة الحدث في ظرفية سياسية جد صعبة، لاسيما وأنها تضم في صفوفها الحسين حوري أحد أقطاب المسرح المعارض.
تناوب على تدبير الفرقة المسرحية كل من عبد الرزاق الهراوي، الذي يعد من ضحايا المسرح، فقد مات إثر حادثة سير أثناء عبوره السكة الحديدية، وهو يحمل الديكور وإكسسوارات المسرح، وعبد السلام الزيادي، الذي تقلد الأمور بعده، والذي تدرج في جميع المهام من الإدارة إلى التشخيص إلى الكتابة، ثم محمد العلوي الذي كان قائدا في سلك السلطة المحلية بالدار البيضاء، ومات مقتولا على يد مشرد في المركز الاجتماعي العنق.
لكن الزيادي، رائد مسرح الهواة في درب السلطان، سرعان ما غير الوجهة، وأصبح واحدا من أقطاب وزارة الداخلية في عهد إدريس البصري، بل إنه تقلد مناصب قيادية بدءا بالمستشار الإعلامي إلى قائم على قسم الولاة في أم الوزارات.
كان حاضرا بقوة في الندوات الصحافية للملك الراحل الحسن الثاني، وكان البصري يكلفه بتتبع أشغال الصحافيين الذين توجه لهم دعوة حضور لقاءات الملك مع الإعلام، كما جاء في تصريح صحفي لطلحة جبريل قال فيه: «علاقة البصري باللغة العربية سيئة جدا. كان في معظم الوقت يستعمل الفرنسية، وعندما يتحدث معي يستعمل اللهجة العامية، أتذكر أنه التفت نحوي في ختام لقاء وقال: «هل فهمت؟» قلت له: «القليل»، وعقب قائلا: «طيب عبد السلام الزيادي سيشرح ويلخص لكما ما قيل». كان الزيادي يعتبر إحدى الشخصيات القوية في وزارة الداخلية. وفعلا وقفنا قليلا مع عبد السلام الزيادي بعد انتهاء الندوة الصحافية، لكنه قال كلاما فضفاضا».
طبعا الزيادي فوق الركح المسرحي ليس هو الزيادي في وزارة الداخلية، فقد أصبح عنصرا أساسيا في المحيط الضيق لإدريس البصري إلى جانب أوفوس وبنهاشم وعلابوش وبنكيران، الذين اعتبروا عقل أم الوزارات.
وقال الصديق معنينو، في سيرته «أيام زمان»، إن مكانة الزيادي ظهرت في ليلة زواج الداخلية بالإعلام، حيث تبين من خلال عملية تسليم مهام حقيبة الإعلام بين عبد اللطيف الفيلالي وإدريس البصري، حضور كل من عبد السلام الزيادي وحفيظ بنهاشم رفقة وزير الداخلية، تحدث مع معنينو حول الإعلام وأشعره بوجود رقابة على المواد الإخبارية من طرف الشخصين سالفي الذكر.
غادر عبد السلام الزيادي مسرح العروبة ودخل مسرح السلطة، بينما ظل شقيقه عبد اللطيف الزيادي مديرا للمسرح البلدي بالدار البيضاء بمساعدة أحمد الصعري.
أبيض. أمين حزب سياسي مسكون بعشق أنور وجدي
في حوار مع الصحافي رمزي صوفيا، قال محمد أبيض، الأمين العام السابق لحزب الاتحاد الدستوري، ووزير الشؤون الاجتماعية في عهد البصري، متحدثا عن علاقته بدرب السلطان، «كنت أغتنم الأوقات التي تسمح لمشاهدة الأفلام المصرية عن طريق الفيديو كاسيت وذلك في منزلي، وبالمناسبة فأنا من أشد المعجبين بالراحل أنور وجدي الذي توفي وهو في عز شبابه، كما يعجبني كثيرا الفنان الكبير وعميد المسرح المصري في القرن الماضي الراحل يوسف وهبي، ووسيم الشاشة المصرية رشدي أباظة. المهم أنا من أكبر عشاق عباقرة سينما الأبيض والأسود، أما الفنانات فتعجبني الفنانة ماجدة التي قامت بتجسيد دور المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد بطريقة رائعة. أما الأصوات الغنائية فأنا واحد من جمهور العندليب الراحل عبد الحليم وطبعا محمد عبد الوهاب أما الأصوات النسائية فليس هناك أفضل من الراحلتين إسمهان وفايزة أحمد».
كان الفتى مهووسا بالسينما المصرية الاستعراضية، وفي بداية الستينات أصبح محمد عنصرا نشيطا في الشبيبة العمالية لنقابة الاتحاد المغربي للشغل، والتي كانت مكونا أساسيا من مكونات حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكان يشارك أقرانه عشق المسرح والموسيقى بل وكان يقلد كبار الفنانين المصريين.
لكن دخوله الحقيقي لمربع عمليات السياسة يرجع لسنة 1962 حين انضم للحملة الانتخابية للمعطي بوعبيد والتي مكنته من اعتلاء منصب رئيس بلدية الدار البيضاء، باسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، قبل أن يغير جلده السياسي لاحقا.
في عز حالة الغليان التي كان يعرفها المغرب في عهد الحماية، وحين كانت الحركة الوطنية في أوجها، استقرت عائلة أبيض في درب السلطان، ويبدو أن استقرار الأسرة في هذا الحي كان له الأثر الواضح في بناء شخصية الأبناء، قبل أن تكون لعائلة أبيض محطة سكنية ثالثة هذه المرة في حي عين الشق، ورابعة في فيلا بشارع 2 مارس.
يكفي التواجد في حي درب السلطان الشعبي العريق لتصبح سياسيا أو نقابيا أو فنانا أو رياضيا، لذا «ابتلي» أفراد أسرة أبيض بدون استثناء بحب الرجاء البيضاوي، بمن في ذلك الوالدة مباركة التي كانت تحتفل بانتصارات الفريق الأخضر خاصة في الديربيات.
حين تحولت ثريا جبران من ممثلة متمردة إلى وزيرة للثقافة
كانت ثريا في زمن إدريس البصري ممنوعة من الصرف، بل إن أعمالها المسرحية كانت مصدر قلق لكثير من الأجهزة الأمنية، سيما أمام ميولاتها اليسارية، بل إن وزارة الداخلية ظلت تنقل للملك تحركاتها المقلقة وخطواتها على الركح ولقاءاتها مع معارضي القصر.
في عهد الحسن الثاني لم تكن ثريا مدللة، بل إن الساحة الفنية المغربية ما زالت تذكر بمرارة حادث اختطافها وحلق شعرها لمنعها من المشاركة في البرنامج الحواري الجريء «رجل الساعة» الذي كانت تقدمه الصحافية فاطمة الوكيلي على القناة الثانية.
ترجع علاقة ثريا بالمسرح إلى الطفولة، اذ وهي في سن العاشرة اقترح عليها أخوها، الذي كان يدير فرقة مسرحية للهواة في مدينة الدار البيضاء، المشاركة بدور ثانوي في إحدى المسرحيات، علما أن نبوغها في التشخيص ظهر في خيرية عين الشق حين كانت ترافق أحد أفراد أسرتها إلى هذا المرفق.
كانت نقطة التحول في حياتها حين التقت بالمخرج فريد بن مبارك، أستاذ الفن المسرحي، الذي أثنى على موهبتها، وشجعها على الاحتراف، وساعدها على الالتحاق بمعهد المسرح الوطني بالرباط عام 1969. كانت حينها تمثل ضمن فرقة المسرح الجامعي، وكان المسرح في نهاية عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، يشكل مصدر قلق للأنظمة السياسية العربية.
ساهمت ثريا في تأسيس عدة فرق مسرحية من بينها «مسرح الشعب»، و«مسرح الفرجة»، و«فرقة الفنانين المتحدين» ومثلت في أفلام ومسلسلات تلفزيونية، اكتسبت من خلالها شعبية عريضة خاصة من خلال وصلات إشهارية لازال المغاربة يحفظونها عن ظهر قلب، كما تألقت بشكل ملفت في أشهر مسرحيات الطيب الصديقي.
ومن خلال فرقة الصديقي، الذي كان ممثلا ومخرجا في نفس الوقت، انضمت جبران إلى فرقة الممثلين العرب، التي تأسست في الأردن، حيث حصلت على جائزة أحسن ممثلة عربية بمهرجان بغداد عام 1985. كما نالت ثريا جبران جوائز وأوسمة رفيعة، كوسام الاستحقاق الوطني من الملك الراحل الحسن الثاني، ووسام الجمهورية الفرنسية للفنون والآداب من درجة فارس.
تولت ثريا جبران عام 2007 حقيبة وزارة الثقافة، وكانت محسوبة على حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فكانت بذلك أول فنانة مغربية وعربية تتولى منصبا في الحكومة، لكنها طلبت إعفاءها من المنصب سنة 2009 لأسباب صحية. عينت وزيرة للثقافة لكن المرض عجل برحيلها من كرسي الوزارة، بعد أن داهمها وأصبحت زبونة للمصحات، لذا طلبت من الملك محمد السادس إعفاءها من مهام لا تملك القدرة الجسدية والذهنية لممارستها، واختارت المغادرة الطوعية كي تتفرغ للعلاج. استجاب القصر للملتمس وتم تعويضها في تعديل حكومي صيفي ببنسالم حميش.
يقول المقربون من ثريا إنها عانت في آخر أيام استوزارها وتبين للجميع أن مقامها لن يطول، خاصة بعد أن تصدى لها بعض رفاق الأمس، الذين شنوا حربا بلا هوادة على السيدة التي كانت وزيرة للمسرح أكثر من الثقافة، ظلت تعاني من جحود رفاق الأمس إلى أن غادرت الحياة الدنيا.
الوفا.. وزير استوحى السخرية من فرقة الوفاء المراكشية
استمد محمد الوفا الجرأة السياسية من تاريخه الطويل في النضال؛ فقد «كان جريئا منذ صغره. جريئا بثانوية محمد الخامس بباب أغمات، جريئا بنادي الشبيبة الاستقلالية التي كانت بساحة مقرها خشبةٌ تداولت فوقها جل الفرق المسرحية المراكشية في عروضٍ ناجحة. هناك كان صديقنا محمد الوفا يصول ويحاج سياسيا الأصدقاء قبل الأعداء»، يقول الأنثروبولوجي عبد الصمد محيي الدين.
لكن السياسي والديبلوماسي المراكشي الوفا استمد السخرية التي تميز خطابه، أيضا، من علاقته برجالات الكوميديا المراكشية، خاصة أعضاء فرقة كوميديا وفرقة الوفاء المراكشية، وكان عاشقا أيضا لأغاني جيل جيلالة المراكشية الجذور.
لا يوجد تاريخ تفصيلي لولادة محمد الوفا إلا أنه لا أحد يجادل في ولادته عام 1948 في مراكش، أثناء فترة الاحتقان الشعبي بسبب القحط والوباء والسلطات الواسعة لحاكم المدينة التهامي لكلاوي. في هذه السنة ولد «سي محمد»، الذي عاش حياة اليتم فتكلف خاله باحتضانه في بداية طفولته، وحين اشتد عوده تبناه خاله الذي تكلف بتعليمه، بالرغم من ضيق ذات اليد، وسعى جاهدا إلى انتشاله من وسط الخصاص، مصرا على أن يدخله للمسيد ومنه إلى المدرسة.
غادر محمد الوفا مراكش ابتداء من سنة 1968، بعدما اختار التسجيل في شعبة العلوم الاقتصادية بجامعة محمد الخامس، لكنه سرعان ما انخرط في النضال الطلابي، معتبرا الفضاء الجامعي مجالا للزعامة مستندا إلى مرجعيته الحزبية في حزب الاستقلال وشبيبته وقبلها في كشفية الحزب.
بعد حصوله على الإجازة في العلوم الاقتصادية بكلية الحقوق بالرباط، نقل الوفا حروبه على الاتحاديين إلى باريس، حيث كان يهيئ ديبلوم الدراسات العليا في العلوم الاقتصادية، وحين عاد إلى المغرب تزوج نجلة علال الفاسي واقترب أكثر من دائرة القرار الحزبي.
عاد الرجل إلى مراكش ليصبح رئيسا للمجلس البلدي برلمانيا للمدينة، تردد عليه بعض الممثلين الذين غدر بهم الزمن، بل إنه وعد الممثل عبد الهادي اليتيم، بمورد رزق بالبلدية، لكن عبد الهادي، الخجول والمتعفف، لم يعد أبدا لزيارة الرئيس حتى قضى نحبه.
تقلد الوفا مناصب عديدة، حيث عين في 2012 وزيرا للتربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي في حكومة عبد الإله بنكيران الأولى، كما جرى تعيين الوفا وزيرا منتدبا مكلفا بالشؤون العامة والحكامة في النسخة الثانية من الحكومة ذاتها؛ بعد انسحاب حزب الاستقلال من تحالف الأغلبية، وسبق له أن شغل منصب سفير للمملكة المغربية ما بين 2000 و2004 في الهند، قبل أن يعين سفيرا في إيران وفي البرازيل لاحقا.
عبد الصمد الكنفاوي.. مسرحي ونقابي وديبلوماسي
ظل المسرح يسكن عبد الصمد الكنفاوي إلى آخر رمق في حياته، فقد حرص على قراءة آخر الأعمال المسرحية، وسعد بزيارة رجال المسرح أكثر من زيارة كبار المسؤولين له وهو على فراش المرض، بعد أن ظل يخفي آلامه ويصر على ممارسة النضال السياسي والنقابي غير مهتم بالمرض الذي يضرب كبده.
لم يكن أحد من زملاء عبد الصمد الكنفاوي يعتقد أن الرجل الذي شغل مناصب ديبلوماسية هامة، سيعتزل المناصب العليا وينخرط في الفن المسرحي، وحدها زوجته فالسيوني دانيال، هي التي تفهمت الوضع ورافقته في أصعب المنعرجات التي مر بها سيما في صراعه مع المخزن، الذي اعتبره عنصرا لا يمت للديبلوماسية بصلة، فقط لأنه كان يفكر بصوت مسموع.
ولد عبد الصمد في مدينة العرائش سنة 1928، وحتى حين انتقل إلى الرباط لاستكمال تعليمه بثانوية مولاي يوسف، ظل مسقط الرأس حاضرا في كتاباته. بفضل المسرح كتب لعبد الصمد أن يقوم بأول رحلة خارجية صوب فرنسا، ففي سنة 1956 مثل المغرب ضمن فرقة مسرحية محترفة، في مهرجان باريس كان نصيبها الرتبة الثانية، من خلال عمل مسرحي تفاعل معه الجمهور عنوانه «الشطاب»، أي الكناس، بل إنه أصبح في ظرف وجيز مديرا لفرقة المعمورة الاحترافية.
لكن بعد حصول المغرب على الاستقلال شرعت أول حكومة في رصد الكفاءات المغربية، فكان من نصيب عبد الصمد منصب ديبلوماسي رفيع، إذ عين ملحقا ثقافيا في قنصلية المغرب ببوردو، إلا أن الرجل ظل يتردد على مسارح بوردو وباريس وستراسبورغ ثم موسكو، إضافة إلى مرور عابر ببوينيس أيريس.
في سنة 1961 شارك عبد الصمد في إضراب تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل، احتجاجا على طرد مجموعة من الديبلوماسيين، ولأن الإضراب حسب «المخزن» ليس من «شيم القناصلة»، فقد غضبت الخارجية من الكنفاوي وغضب هو أيضا منها ليتم تسريحه، ويعود سعيدا إلى الخشبة، لكن اسمه كان ممنوعا في الإذاعة.
عاد الكنفاوي إلى المناصب الحكومية بعد أن هدأت الغضبة، وتقلد منصبا قياديا في مكتب التسويق والتصدير، وكاتبا عاما في فترة ثانية بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، دون أن يدير ظهره للمسرح حيث ظل يقضي لياليه في كتابة أعمال خالدة، منها ما تعرض للمصادرة مما زاد من غضبه خاصة مسرحية «بوكتف»، التي منعت من البث الإذاعي بسبب تأويلات حول شخصية بوكتف الرئيسية.
كان الرجل بوهيميا يسهر الليالي وهو يحاور ملكة إلهامه، وهو ما دفع الملك الحسن الثاني، ليقول لأرسلان الجديدي، حين كان هذا الأخير وزيرا للشغل، «لو لم يكن عبد الصمد بوهيميا لعينته بدلا عنك على رأس قطاع الشغل».
وفاء لاسمه غنى لأجله ناس الغيوان مقطعا جاءت فيه عبارة: «سعدات لي رضى عليه الكنفاوي».
سيناريو فيلم وثائقي ينهي حياة الزعيم بن بركة
كان المهدي بن بركة عاشقا للسينما، كان مهووسا بها حد الجنون، وكان يحرص على مشاهدة الأفلام الغربية والعربية في قاعات السينما داخل المغرب وخارجه، كما كان حريصا على متابعة أعمال مسرحية.
من سخرية القدر والحياة، أن يكون المهدي بن بركة قد خطط لمشاهدة مسرحية في باريس خلال نفس اليوم الذي اختطف فيه. كان برنامجه في ذلك اليوم هو لقاء مخرج فرنسي للعمل معه على فيلم يحمل عنوان «باسطا» وتعني كفى باللغة الإسبانية، والذي لم يكن المهدي متحمسا له وحسب، وإنما كان يخطط لاستعماله كدعاية لمؤتمر دول القارات الثلاث الذي كان يعد له ليجري في كوبا سنة 1966.
لم يكن المهدي يعلم أنه على موعد مع مسرحية أخرى، أمام مقهى «ليب» التي سيلتقي فيها بالمخرج المفترض ذات يوم خريفي من عام 1965، وسيختفي إلى اليوم. لقد اطلع المهدي على سيناريو الفيلم/ الطعم، الذي يتضمن ثلاثين صفحة، وينطلق من سنة 1945 ليحكي قصة حصول كل دولة من دول العالم الثالث على استقلالها، ويتوقف عند لحظة تأسيس حركة دول عدم الانحياز عام 1955 في باندونغ الإندونيسية.
كما جاء في شريط وثائقي بثته قناة الجزيرة حول اللحظات الأخيرة من حياة هذا الزعيم السياسي، فإن المهدي أشعر شريكيه المفترضين في مشروع الفيلم «فرانغو» و«فيكون» بموعد وصوله قبل يومين، وحدد معهما موعدا في مقهى «ليب» بشارع سان جيرمان، قبل أن يخبرهما بتراجعه عن التمثيل في هذا الفيلم، بل، قبل وصوله إلى فرنسا، اتصل المهدي من جنيف بطالب مغربي يحضر أطروحة في التاريخ يدعى التهامي الأزموري، وحدد معه موعدا بباريس، ليطلعه على السيناريو من أجل مراجعة بعض الفقرات الواردة فيه، قبل أن تداهمه الشرطة وتأخذه نحو المجهول.
مؤطر
عبد المجيد فنيش (*):
هكذا يعيش زيلينسكي ثنائية الممثل والرئيس
ما حدث وما يحدث وما قد يستمر في الميدان كتداعيات نتيجة الحرب المدمرة، هو عمل يراه المرهفون أصحاب القلوب الضعيفة الفنانون وأساسا المشتغلون في حقول الدراما، يرونه عملا عبثيا ليس بالمفهوم الأدبي والفني الرائع لمدرسة العبث، وإنما أدبي بمفهوم الفوضى المدمرة، في حين يراه السياسيون والديبلوماسيون والاقتصاديون والباحثون في الاقتصاديات حدثا يتحدث بلغة الأرقام عن انعكاسات هذا الوضع الآن وغدا على العباد والبلاد في مختلف أنحاء الأرض.
بما أن الرئيس الأوكراني الحالي جاء السياسة من باب المسرح، فبالتالي فإن أبا الفنون هو اللون التعبيري الأكثر قدرة على أن يجمع في ثناياه كل ثقافات وكل أجناس التعبير وكل القضايا دفعة واحدة.
وبما أن رئيس أوكرانيا جاء من المسرح كممثل ودخل السياسة وأصبح رمز البلاد ممثلها الأعلى، فليذهب بنا الخيال إلى ما يلي:
المشهد الأول: الرئيس الأوكراني الحالي يمثل دور رئيس أوكرانيا في زمن ومكان غير محددين على غرار عادل إمام في مسرحية الزعيم، التي جسد فيها الرئيس البديل لقائد البلاد، وداخل لعبة التمثيل هاته ليذهب بنا الخيال إلى أن هذا الممثل/ الرئيس والذي هو زيلينسكي حيث يمثل فوق الخشبة دور الرئيس الذي لم يلبس لبوسه بعد وعبر مشاهد متعددة ينتقل من مدينة إلى أخرى للوقوف عند المشاريع التنموية وليرى أوكرانيا تعيش متحررة من وصاية روسيا، وتفقد أحوال عيش مواطني بلده على نمط غربي، وهكذا تتعدد لحظات تلك المشاهد عبر استقباله لقادة موفدين من قادة الدول. كما أن هذه المسرحية المتخيلة فيها أكثر من مشهد للحياة الخاصة لهذا الرئيس.
أما المشهد الذي يمثل الذروة في هذه المسرحية، وهي أن الممثل زيلينسكي، وهو يؤدي دور الرئيس، يتم إخباره بأن روسيا بصدد الإعداد لغارة على أوكرانيا، وتتم إحاطته بالأسباب التي دفعت روسيا لاتخاذ هذا القرار، لنتخيل جميعا كيف يمكن أن يكون وضع هذا الممثل، ماذا سيفعل؟ هل سيحتفظ بهدوئه في التعامل مع الخبر؟ ترى هل سينفعل؟ هل سيعطي الأوامر فوق الخشبة لمساعديه لتقصي الحقائق قبل اتخاذ أي قرار؟ لا يمكن أن يجيب عن هذه الأسئلة إلا من يتقمص ويشخص دور الرئيس.
هنا تحضر التباعدية البريشتية التي جاء بها برتولت بريشت الألماني الشهير، وهي ما حدود الانفصال بين الشخص المشخص لشخصية ما في مسرحية ما وبين الشخصية التي يشخصها؟ ترى هل سيكون هذا الممثل بريشتيا ويلجأ إلى التباعدية ليخرج من دور المشخص للرئيس ليصبح هو الممثل زيلينسكي فقط؟
لوكنت مخرجا لهذه المسرحية، سأوجه الممثل خلال التمارين كي يظل في شخصية الرئيس ولا يغادرها، وأن يشرع في إعطاء تعليماته ولو بانفعال وعلى محياه تقاسيم الغضب، ومن شدة قلقه سيبعثر قطع الديكور ويأمر الطاقم التقني بأن يغيروا أنوار الإنارة في المشهد الذي جاء فيه الخبر، بألوان أخرى تكشف عن انقلاب الوضع.
من هنا ننتقل إلى مكان ما في أرض أوكرانيا، حيث سيكون الرئيس الذي كان ممثلا في الميدان يواصل تعليماته لقواته ولمسؤولي الدولة. بأي لغة سيخاطبهم بلغة الممثل الذي أحب التمثيل أم بلغة زيلينسكي الرئيس الذي أراد أن يكون امتدادا للحضارة الغربية فأغضب جيرانه، أراه الآن في موقف دراماتيكي لم يتوقعه يوما، لن يفيد فيه مخرج، والمخرج هنا في الحياة الميدانية، حيث الأجواء مكسوة بغمام دخان الطائرات والبر مكسو بالجثث المحروقة والدبابات المعطلة والمباني التي تحولت إلى حطام، هنا لا مخرج من عباقرة الإخراج منذ أمجاد المسرح الإغريقي، بقادر على أن يضبط حركات وسكون زيلينسكي، الرئيس الذي لا حاجة له الآن في قدراته التشخيصية كمسرحي محترف.
(*) أستاذ المسرح