يونس جنوحي
عجيب فعلا كيف تمكن الذين أعلنوا عن العدد المضبوط للمُنسحبين من التعليم العمومي، بسبب الإضرابات والتشنج بين الوزارة وأسرة التعليم، من إحصاء التلاميذ المعنيين، في وقت وجيز جدا. ثمانون ألف تلميذ انسحبوا من التعليم العمومي وتوجهوا إلى التعليم الخاص، في محاولات «فردية» من الآباء لإنقاذ الموسم الدراسي لأبنائهم.
ولو أن جهات مدنية كشفت عن هذا الرقم، لربما تسربت بعض الشكوك بخصوصه، ولربما رُجح أن تكون المؤسسات الخاصة وراء ترويج «ذكي» لمدارسها في عز أزمة المدرسة العمومية.
لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن نلوم أرباب الأسر الذين سحبوا ملفات أبنائهم من القطاع العام، وتوجهوا نحو المدارس الخاصة. لكن هذه «الهجرة» لا تعني أبدا أن القطاع الخاص يعيش أزهى أيامه. فالأسر المغربية التي وجهت أبناءها نحو المدارس الخاصة، خاضت بدورها احتجاجات وكتبت مراسلات إلى الجهات الرسمية تشتكي فيها من «تغوّل» أرباب المدارس الخاصة، واتهمتهم بمص دماء أولياء الأمور. هذا دون أن ننسى المُساءلة حول جودة التعليم الخاص في المغرب، خصوصا في المستوى الإعدادي والثانوي، ومصداقية النتائج التي يُرسلونها إلى أولياء الأمور.
ما زالت الأوضاع متشنجة بين الأساتذة والوزارة، وبحسب ما يدلي به بعض المُنتسبين إلى التنسيقيات التي تمثل أسرة التعليم، فإن الأساتذة لديهم تصور لحل يُمكنهم من استدراك الحصص التي فاتت التلاميذ، بسبب الإضرابات. التلويح بسنة بيضاء، ليس سيناريو وليد اليوم، كما أنه ليس مُستبعدا في أية لحظة. خصوصا وأن التلويح بتهديد «السنة البيضاء» كان يروج منذ 2003، السنة التي شهدت إضرابات مكثفة، استمرت لأسابيع، ولم يتحقق شيء من تلك التهديدات.
سوف يعود الأساتذة إلى الأقسام، هذا أمر مؤكد، لكن كم يكفي من الأضرار لكي تجد الوزارة حلا مُقنعا يعيد الحياة إلى قاعات الدرس؟
عندما كان الأجانب يُدرسون في المدارس العمومية المغربية في السنوات الأولى بعد الاستقلال، كان التعليم المغربي يمر بصعوبات أشد من هذه التي نعيشها اليوم. والمُدرسون القادمون من مصر والعراق، كانت لديهم خبرة أكثر من المغاربة في مجال التدريس، خصوصا وأنهم قادمون من تجارب متقدمة مقارنة مع التجربة المغربية وقتها. وهؤلاء المدرسون الذين شكلوا النواة الأولى، إلى جانب المدرسين المغاربة، لنواة التعليم المغربي، ضحوا كثيرا لكي تحظى المدرسة العمومية باهتمام الحكومات وتُخصص لها ميزانيات أكبر، لبناء المؤسسات وتعيين المزيد من المُدرسين، وأيضا لتمويل التكوين المستمر للأساتذة.
عندما أصبح المغرب يُصدر المقررات الدراسية الخاصة به، دون الحاجة إلى نسخ بعض الكتب من الدول العربية، ودون جلب أخرى من فرنسا، صارت المدرسة المغربية تُشبه المغاربة، وتدريجيا، لم نعد بحاجة إلى مُدرسين أجانب. ماذا وقع إذن لكي نصبح أمام هذا الـ«سوء الفهم الكبير» بين الوزارة وأسرة التعليم؟
في عز النقاش المشتعل حول أسباب مشاكل التعليم، لا أحد، حتى الآن على الأقل، فكر في أسباب هذه القطيعة. المسؤولون في الوزارة هم مُعلمون ومُدرسون سابقون، سبق لهم أن مروا بتجربة التدريس واجتازوا المباريات لكي يصلوا إلى المناصب التي تخول لهم مناقشة القانون الأساسي وصياغة فقراته. هناك إذن هوة كبيرة بين الجالسين في حجرات الدرس وبين الجالسين في مقر الوزارة بالرباط، ومعهم الذين يهمسون في أذن الوزير.
وحتى لو عاد الأساتذة إلى الأقسام مع وعود مراجعة النظام الأساسي، فإن الوزارة لن تتعافى خلال أشهر فقط. هناك حاجة كبيرة إلى فتح باب التواصل بين القائمين على التعليم والمُدرسين، وحتى ممثلي جمعيات الآباء. البحث عن الحل سوف يبدأ بتفقد جودة التعليم أولا، أما المدارس الخاصة، فيمكنها استقبال مليون تلميذ غدا، خصوصا وأن أصحابها لا يحتاجون أكثر من رخصة وغُرف تُحول إلى أقسام دراسية.