من أسرار العشرية السوداء
تشهد الجزائر هذه الأيام تفاعلات مثيرة للاهتمام، لا تتعلق فقط بخيارات المستقبل بعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي يعاني مشكلات صحية، لكنها تتعلق أيضا بملفات الماضي وحساباته. ولا أستبعد أن يكون الصراع على المستقبل هو الذي استدعى ملفات الماضي، باعتبار أن خلفيات الأشخاص عنصر مهم في تحديد أدوارهم في السيناريوهات القادمة، وإذ لا جديد يذكر في الصراع الحالي على السلطة، ولكن الجديد يظل في ما استدعاه ذلك من أحداث شهدتها البلاد منذ ربع قرن، فنحن نتابع منذ أكثر من عام أخبار لجوء الرئيس بوتفليقة إلى تفكيك المؤسسة الأمنية المهيمنة. والتفكيك الذي أعنيه لا يقصد به إلغاء دور العسكر في السياسة الجزائرية، فذلك أمر مستبعد في الأجل المنظور، ولكنه ينصرف إلى إحداث تغييرات في هياكل تلك المؤسسة وتخفيف قبضة العناصر المتحكمة فيها منذ عدة عقود.
الجديد في المشهد الجزائري كشف عنه تقرير مهم لموقع «موند أفريك» الفرنسي عرضه «عربي 21» يوم 18 يناير، إذ تطرق إلى العواصف السياسية التي تضرب الساحة الجزائرية في الوقت الراهن جراء فتح ملفات «العشرية السوداء» التي تمثلت في صراع العسكر والمخابرات مع الإسلاميين بعد فوزهم في الانتخابات عام 1991. ذكر التقرير أن الملفات فتحت بعدما أطاح الرئيس بوتفليقة في شهر سبتمبر من العام الماضي بالجنرال توفيق الرجل الأقوى في الجزائر. الذي رأس جهاز المخابرات منذ عام 1990. إذ في أعقاب إجباره على الاستقالة وجد بعض المسؤولين في دولة المخابرات أنفسهم في وضع حرج. فقد بدأت أسرار العشرية السوداء تتكشف، بعدما قام أحد رجالها، العقيد السابق محمد طاهر عبد السلام الذي كان مكلفا في جهاز المخابرات بملفات الشرق الأوسط والمعارضين في الخارج بالإدلاء بشهادته حول أحداث «العشرية السوداء». ذلك أنه بعدما فقد الجنرال توفيق سيطرته على الصحف والقنوات التلفزيونية فإن وسائل الإعلام المحلية تنافست على كشف المعلومات المتعلقة بإجهاض المسار الديمقراطي في سنوات التسعينيات. وهو ما تم من خلال دعوة بعض رجال تلك المرحلة إلى الحديث عما جرى خلالها. فقامت قناة «خبر» المحلية ببث حوار استمر ساعتين مع العقيد محمد طاهر عبد السلام تحدث فيه عن ملابسات تصفية الجنرال فضيل سعيدي المسؤول عن العمليات الخارجية في جهاز المخابرات في عام 1996. إذ ذكر أن حادث السيارة الذي قتل فيه كان مدبرا، وأن الناجي الوحيد من الحادث. الذي عولج آنذاك في أحد مستشفيات باريس أكد ذلك. حيث أفاد بأن السيارة لم تتعرض لحادث سير كما قيل، ولكنها انفجرت مما أدى إلى قتل الرجل. وطبقا لما ذكره فإن سبب التصفية راجع إلى أن الرئيس السابق الجنرال لمين زروال كان قد قرر تعيين الجنرال فضيل على رأس جهاز المخابرات، وهو ما رفضه الجنرال توفيق ومساعدوه. لذلك فإنهم تخلصوا من الرجل بهذه الطريقة.
تحدث العقيد عبد الهادي أيضا عن انقلاب العسكر على المسار الديمقراطي من خلال قطع الطريق على الجبهة الإسلامية للإنقاذ. فقال إنه بعد الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية التي تمت عام 1991 وأظهرت تقدما واضحا للجبهة تم إقصاء الرئيس شاذلي بن جديد وتسلم العسكر الاستئصاليون مقاليد الدولة. وقد شرع هؤلاء في تنفيذ مخططهم لإفشال الإسلاميين عبر إغراق البلاد بشكل متعمد في العنف والإرهاب. في هذا الصدد ذكر رجل المخابرات السابق أنه سمع بنفسه قادة المخابرات وهم يتحدثون عن قبولهم بوصول الرئيس الأسبق أحمد بن بلة للحكم إذا اختاره الجزائريون، إلا أنهم لن يسمحوا لعناصر الجبهة الإسلامية بتولي السلطة حتى إذا فازوا في الانتخابات.
من الملاحظات المهمة التي سجلها تقرير «موند أفريك» أن الجنرال توفيق وبقية قيادات الجيش والمخابرات الذين قادوا المؤامرة يوصفون في الأوساط الشعبية الجزائرية بأنهم «جنرالات فرنسا»، ذلك أنهم حاربوا إلى جوارها ضد الثوار الجزائريين في حرب الاستقلال، ثم انضموا إلى صف الثورة في اللحظات الأخيرة قبل خروج فرنسا من الجزائر، وظلوا منذ تلك الحقبة يسيطرون على مقاليد السلطة في البلاد ويخدمون مصالح المحتل بصورة غير مباشرة.
أورد التقرير قصة أخرى تتعلق بالشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة في تونس، الذي كان ملاحقا من النظام الحاكم، إذ حين اضطر للهرب إلى الجزائر فإن زين العابدين بن علي قرر ملاحقته، فتوجه إلى لوزان السويسرية وطلب من ابن بلة الذي كان مقيما هناك العمل على ترحيل الغنوشي إلى تونس. وهو ما أثار استياء ابن بلة واستنكاره، فاتصل برئيس الوزراء الجزائري آنذاك أحمد غزالي (بين عامي 1991 و1992) وقال له: لقد أوصلتم الجزائر للحضيض حتى أن شخصا تافها مثل ابن علي جاء يصدر إلينا الأوامر، ويحذرنا من أنه سيفضح الجزائر في أوروبا إذا لم نسلمهم راشد الغنوشي.
إن فضائح عالم المخابرات تتسرب حينا بعد حين إلى وسائل الإعلام الأمر الذي يصدم الرأي العام من خلال اطلاعه على خبايا ذلك العالم السري الذي ظل يهيمن على الجزائر منذ استقلالها في عام 1962. إذ إنها ليست حافلة بالملفات المثيرة فحسب ولكنها أيضا حافلة بالدروس والعبر.