شوف تشوف

شوف تشوف

من أجل حفنة من الأوروات

رغم كل ما قيل وكتب حول النساء المغربيات اللواتي يذهبن كل سنة لجني الفراولة في حقول الأندلس تستعد حوالي عشرين ألف عاملة للذهاب للعمل في هذه الحقول.
شاهدت صورا لهؤلاء النساء وهن ينتظرن دورهن لتسجيل أنفسهن للفوز بما يعتبرنه فرصة العمر لتوفير حفنة من الأوروات المبللة بالعرق والإهانة. نساء يرتدين جلابيبهن ويغطين رؤوسهن ويحملن ملفات في أيديهن بانتظار الحصول على ورقة الموافقة. نظراتهن المليئة بالحزن تتطلع إلى رؤية المكلف باختيار من منهن ستكون ضمن قافلة النساء المحظوظات اللواتي سيشتغلن في الحقول الإسبانية بـ37 أورو في اليوم.
منظرهن بدا لي مشابها لما كان يحكيه لي جدي عندما كنت صغيرا. كان يقول إن الفرنسيين كانوا يأتون إلى المدن والقرى المغربية ويجمعون الناس لكي يختاروا من بينهم من سيرسلونه إلى فرنسا للعمل في مناجم الفحم وحفر الأنفاق. آنذاك كانت البطاقة الوطنية للمغاربة هي راحات أكفهم. فقد كان الفرنسي المكلف باختيار المغاربة الذين سيذهبون إلى فرنسا يتفقد أكفهم أولا، وإذا وجد أن كف أحدهم رطبة يأمره بأن يعود من حيث أتى، فقد كانوا لا يقبلون سوى بذوي الأكف المشققة والخشنة المتعودة على العمل المضني.
بعد 63 سنة من الاستقلال سيتكرر الشيء نفسه اليوم، فالإسبان المكلفون باختيار النساء اللواتي سيذهبن لجني توت الأرض في إسبانيا يشترطون أن يكن فلاحات ومتعودات على قسوة العمل. ولكي يتأكدوا من ذلك فإنهم يلجؤون إلى تفقد أكفهن. كما أن المرشحات يجب أن يكن متزوجات ومن الأفضل أن يكون لديهن أطفال صغار، حتى تضمن الحكومة الإسبانية عودة هؤلاء النساء بعد نهاية موسم الجني إلى أزواجهن وأطفالهن. كما أنهم يفضلون اختيار نساء أقل جمالا حتى يتجنبوا هؤلاء المشاكل مع أرباب الضيعات الإسبان.
العمل في حقول التوت ليس سهلا. ولذلك أصبح الإسبان يرفضون العمل في الجني ويفضلون أعمالا أخرى أقل مشقة. فأن تقضي عشر ساعات يوميا بظهر مقوس في جمع حبات التوت ليس بالأمر الهين. وأنا هنا أتحدث عن تجربة. فقد جربت العمل في جني التوت وخرجت بخلاصة مفادها أن أصعب شغل على الإطلاق في الفلاحة هو هذا بالضبط. فعندما تقضي ساعات طويلة وأنت مقوس الظهر تلتقط التوت ثم تقف فجأة تشعر بالعالم يدور من حولك، وتحتاج إلى وقت طويل لكي تأخذ وضعيتك الطبيعية العادية. وأذكر أنني ذات يوم توقفت فجأة عن جني اللوبيا وانتصبت واقفا وطرحت على نفسي سؤالا كبيرا، هل خلقت لكي أشتغل في الجني، ثم قذفت السطل بقدمي وغادرت الحقل وأنا أشعر بسعادة لا توصف. كأنني تحررت من قيد ثقيل كان يشدني إلى الأرض. سمعت صاحب الحقل ينادي علي لكي أبقى على الأقل حتى المساء لكي أتقاضى أجرتي الأسبوعية، فقلت له إنني مسامح دنيا وآخرة. وعدت إلى البيت وأخذت حماما وأقسمت أنني لن أشتغل في أعمال الجني ما حييت.
طبعا هؤلاء النساء مجبرات على العمل ولسن مثلي. أنا كنت أستطيع أن أغير العمل من الفلاحة إلى البناء أو الطبخ دون مشاكل، فقانون الشغل كان آنذاك يتساهل مع أرباب العمل الذين يوظفون مهاجرين سريين بسبب قلة اليد العاملة. ولذلك فهن يعتبرن أنفسهن محظوظات لو تم قبولهن للذهاب للعمل لجني التوت. فهن يحصلن مقابل تلك الشهور التي يقضينها في العمل بإسبانيا على ما يعينهن على العيش في المغرب بقية الشهور الأخرى.
أذكر أن الشرطة المكلفة بالمهاجرين في إسبانيا كانوا يسألون المغاربة الذين يوقفونهم في حملات التفتيش عن أوراق الإقامة، وعندما كانوا يكتشفون أنهم لا يتوفرون عليها يطلبون منهم إعطاءهم أكفهم ليفتشوها. وإذا كانت كفك رطبة فيجب أن تجهز حقيبتك لكي تعود إلى المغرب، أما إذا كانت كفك صلبة وأظافرك مدكوكة بطبقات التراب فإنهم يخلون سبيلك ويتمنون لك نهارا سعيدا، مع أنهم يعرفون أن نهارك سيكون تعيسا بلا شك.
وزير التشغيل ومدير وكالة لانابيك يبدوان سعيدين بكل أولئك النساء اللواتي سيذهبن للجني في حقول الإسبان. أنا مكانهما كنت سأشعر بالخجل. على الأقل في سنوات الاستعمار كان الرجال هم من يذهبون للعمل عند الجيران ويرسلون الحوالات البريدية لزوجاتهم وأبنائهم الذين تركوهم وراءهم في الوطن. اليوم أصبحت النساء هن من يذهبن ويتركن رجالهن وأبناءهن خلفهن. يذهبن وهن يحبسن دموعهن من الحسرة على وطن لم يستطع أن يضمن لهن عملا تافها كجني التوت في حقوله الممتدة. وكأن هذه البلاد ليست فيها أراض وليس فيها توت وبرتقال ومشمش وخوخ ورمان.
إنهم يقدمون صور هؤلاء النساء المصطفات أمام باب مراكز الانتقاء في التلفزيون كفرصة تاريخية للمغاربة لكي يدخلوا سوق الشغل.
وشخصيا رأيت هذه الصور من منظار آخر، وهو أن هؤلاء النساء هن الدليل الأكبر على إفلاس هذه الحكومة والتي قبلها. لقد أرسلوا الرجال بالأمس، واليوم يرسلون النساء، وغدا ربما قد يبعثون بالأطفال أيضا. ما يهمهم هو أن يعودوا محملين بالأورو لكي ينعشوا خزينة الدولة ويخرج رئيس الحكومة لكي يزف للمغاربة خبر ارتفاع احتياطي البلاد من العملة الصعبة.
أليست لدينا نحن أيضا حقول شاسعة من التوت، لماذا لا تنظم وزارة الشغل العمل فيها، وتفرض على أصحاب الضيعات دفع تعويضات تحترم كرامة هؤلاء النساء حتى يستطعن العمل والبقاء إلى جانب أبنائهن في وطنهن.
لماذا لا تفرض وزارة الشغل تطبيق القانون، حتى تنال كل العاملات في الحقول حقوقهن التي تنص عليها مدونة الشغل التي تفتخر الحكومة بإخراجها إلى حيز الوجود.
إن منظر هؤلاء النساء وهن ينتظرن تحت الشمس فرصتهن للتسجيل تطرح أمامنا جميعا سؤال الاستقلال من جديد. وكيف أننا بعد مرور 63 عاما على الاستقلال ما زلنا نسمح للأجنبي بأن يأتي ليفتش أيدي نسائنا قبل أن يشحنهن نحو حقوله ومزارعه.
ليفرح وزير التشغيل بهذه الصفقة، أما أنا فأشعر بالخجل من نفسي ومن وطني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى