شوف تشوف

الرأي

«منتدى الهولوكوست».. هدايا الذكرى والذاكرة

صبحي حديدي
لم يكن في وسع المرء، إلا نظريا وفي مستوى الافتراض فقط، اقتحام المحفل الذي انعقد في القدس المحتلة يوم أمس تحت شعار «تذكر المحرقة، محاربة العداء للسامية»؛ وتقديم هدية متواضعة إلى ساسة تقاطروا من 50 بلدا، في أوربا ومن أمريكا الشمالية والجنوبية.. الهدية المتواضعة هي مجموعة من المؤلفات، الصادرة في الغرب، وبعضها وضعه كتّاب يهود؛ حول إشكالية الهولوكوست حين ينقلب إلى صناعة معقدة متكاملة، تخول أحفاد ضحايا واحدة من أفظع مآسي التاريخ أن يمارسوا دور الجلاد من دون مساءلة، بل بمباركة أو تبرئة أو مشاركة بذريعة تكريم الضحية. بين تلك المؤلفات، في وسع ضيوف القدس المحتلة الكبار أن يقرؤوا تيودور هامرو، في «لماذا وقفنا متفرجين: أوربا، أمريكا، والهولوكوست»؛ ومايكل جونز، في «قضية وليامسون: الكنيسة الكاثوليكية وإنكار الهولوكوست»؛ وإدوين بلاك، في «الآصرة النازية: صلات الشركات الأمريكية بهولوكوست هتلر». ويصح أن يتصدر الهدايا هذه ذلك العمل الشهير الذي وضعه الباحث والمؤرخ الأمريكي ـ اليهودي نورمان فنكلستين، تحت عنوان «صناعة الهولوكوست: تأملات في استثمار المعاناة اليهودية»؛ الذي برهن أن استثمار مآسي اليهود كان، ويظل، صناعة حقيقية، بل وصناعة ثقيلة أيضا، صُرفت أموال طائلة، استهدفت تحويلها إلى قوة جبارة تستثمر العذاب وتبيعه، بعد تضخيمه وتحريفه وابتذاله. ورغم أن كتاب فنكلستين يعتبر كراسا صغيرا (أقل من 150 صفحة)، فإن أهميته الكبرى تكمن في إسقاط الأقنعة عن السياسة التي تصنعها الملايين والمليارات؛ وما ينشأ عنها من مؤسسات هائلة تعمل في خدمة تبييض السياسات الإسرائيلية أولا، وفي تنقية صفحتها لجهة انتهاك حقوق الإنسان وإعادة إنتاج التقاليد النازية ذاتها ثانيا. ولعل الزوابع التي أثارها الكتاب، في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، كانت تدور ضمنا حول هذا «التسييس» غير المسبوق لقضية لم تكن جوانبها الاستثمارية خافية تماما في كل حال. لائحة التهم التي وجهت إلى فنكلستين بدأت من أن الرجل «سم يهودي»، و«يهودي كاره لذاته»، و«يهودي مصاب بانفصام الشخصية». لكن فنكلستين ليس أول يهودي يناقش الهولوكوست من هذه الزاوية الناقدة؛ إذ سبقه راؤول هيلبرغ (الذي يعد حجة في دراسات الهولوكوست، إلى جانب كونه ــ مثل فنكلستين في الواقع ــ سليل أسرة ذاقت عذاب معسكرات الاعتقال النازية)؛ وقبلهما كان وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق الشهير، أبا إيبان، قد أطلق عبارته المأثورة: «ما من بزنس يشبه بزنس الهولوكوست». أكثر من هذا، دخلت لفظة «هولوكوست» إلى قاموس المعيش اليهودي اليومي، فأصبحت مصدرا وفعلا وصفة، وشاع استخدامها في سياقات عجيبة متنافرة متباعدة. على سبيل المثال، حين شاهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحق رابين، فيلم فولكر شلوندورف الشهير «لائحة شندلر» فلم يعجبه، حكم بأن الشريط «ليس هولوكوستيا كفاية». هذا إذا لم يضف المرء إلى طرد الهدايا كتابين صدرا باللغة العبرية، وكانا رائدين في مد المراجعات النقدية لمعنى الهولوكوست في الذاكرة الإسرائيلية المعاصرة: الأول هو «الموت والأمة: التاريخ، الذاكرة، السياسة»، للمؤرخة الإسرائيلية إديث زيرتال؛ والثاني عنوانه «في ظل الهولوكوست: الصراع بين اليهود والصهاينة في أعقاب الحرب العالمية الثانية»، لأستاذ الألسنيات في جامعة تل أبيب، يوسيف غرودزنسكي.
غير أن الذكرى ليست ملكا خالصا للضحايا، إنها تخص الإنسانية جمعاء، ولهذا فإن كتاب غرودزنسكي ينصف ضحايا الهولوكوست من زاوية غير مألوفة أبدا: دور المؤسسة الصهيونية في صناعة الهولوكوست، وكيف انطوى ذلك الدور على تواطؤ مباشر صريح بين بعض القيادات الصهيونية وكبار ضباط الرايخ الثالث المسؤولين عن تصميم وتنفيذ ما عرف باسم الحل النهائي لإبادة اليهود.
وفي العام 1993 أحيت الإنسانية الذكرى الخمسين لانتفاضة غيتو وارسو، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين. ويومذاك، كان اليهودي الهنغاري مالكئيل غرينفالد (أحد الناجين من الهولوكوست) قد نشر كراسا صغيرا يتهم فيه اليهودي الهنغاري رودولف كاستنر (القيادي الصهيوني البارز وأحد أقطاب حزب بن غوريون) بالاتفاق مع الضابط النازي المعروف، أدولف إيخمان، على شحن نصف مليون يهودي هنغاري إلى معسكرات الإبادة، مقابل إنقاذ حياة كاستنر وبعض أقربائه، وغض النظر عن هجرة 1600 يهودي إلى فلسطين. وأما في العام 2020 فإن خلف رابين، بنيامين نتنياهو، يدشن محفل «تذكر المحرقة، محاربة العداء للسامية» على مبعدة أمتار قليلة من جدار الفصل العنصري، والمستوطنات غير الشرعية، وهدم عشرات البيوت السكنية، وتقطيع أوصال الضفة الغربية، وتشريع الهوية اليهودية للكيان الصهيوني… ولعل مشاركة الرأسمالية العالمية، كما تتصدرها اليوم أوربا وأمريكا، في محفل القدس المحتلة، كان الدليل الأحدث على مقولة المفكرة اليهودية حنة أرتدت: أن الهولوكوست تفصيل صريح فاجع، في تراث رأسمالي غربي، وحشي وعريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى