شوف تشوف

الرأي

ملي نكبر..

أول ما بلغت الخامسة من العمر، كم كنت أود أن أكون مغنية شهيرة أو راقصة محنكة، كنت كلما سمعت الموسيقى غلبتني الحماسة.. لم أكن أفرق بين الشارع والبيت وأنا أطلق العنان لخصري وشعري، كما أني لم أقابل بالنهي بل بالتشجيع، كان والدي، رحمه الله، يحلم طوال عمره بابنة، لأنه تعب من تربية بنات الناس اللاتي كلما كبرت الواحدة منهن رجعت لأهلها، لذلك كان لا يرى بأسا في تسجيلي وأنا أغني مغالبة سيل مخاطي، ولا في التصفيق لي لأرقص رقصات معوقة، وكلما نظرت إليه طلبا لرأيه كان يبتسم فرحا: «سعدي ببنتي»..
في الابتدائي، تخليت عن الحلم الفني وصارت أمنيتي: معلمة أو دكتورة، كنت كلما سئلت عن المهنة التي أحلم بها، أبتسم في سعادة بعد أن أرفع وردة «البوندو» الحمراء المتدلية على عيني: «معلمة»، وفي المساء حينما يسألنا معلم المادة الأخرى كنت أجيب: «دكتورة».. كل الفصل تقريبا كان يحلم بالتعليم والطب، وبعد أن يعلن آخر تلميذ فينا عن حلمه، كان معلمنا يضع يده على خده متسائلا عمن سيكون الخضار والجزار، العامل في الإنعاش ومسلك قنوات الصرف الصحي..
في نهاية الصف السادس، وقبل الامتحان الوطني، سئلنا عن المهن التي نحب أن نمتهنها مستقبلا، آنذاك كنت جد متأثرة بسلسلة «ملف المستقبل» للدكتور نبيل فاروق، لذلك كنت أجيب: رائدة فضاء، أستكشف المجرات والكواكب، أقابل السكان الفضائيين وأشارك في حماية درب «التبانة»..
في الإعدادي، كنت قد نضجت وعرفت أن المخلوقات الفضائية والسفر عبر الزمن كلها خرافات وسخافات، وصار كل همي أن أصبح شرطية، تفوقت في المواد العلمية استعدادا لمهنة المستقبل، وتنافست على الرتب الأولى، حلمت بارتداء زي الشرطة، وإلقاء القبض على الأشرار. كنت مدمنة على سلسلة «رجل المستحيل»، أقضي وقت فراغي في قراءة العدد تلو الآخر، متخيلة نفسي مكان «منى توفيق» إلى جانب الأسطورة «أدهم صبري»..
في الثانوي، صدمت بالواقع، كنت أشتري بالكاد الكتب الأساسية، بينما الزملاء يتنافسون على اقتناء كتب الأسئلة والأجوبة التي تساعدهم في الامتحانات، ويصرفون بسخاء على الساعات الإضافية، وكلما عزمت على مفاتحة والديّ بأمر الكتب أو الساعات، لاحظت قصر أياديهم فتراجعت، قاومت وحاولت ونافست، لكن في النهاية استسلمت، أصبحت متهاونة ولا مبالية، لأني اقتنعت بأن الدراسة ليست لأمثالي..
وبوصولي إلى الجامعة، صار أقصى ما أتمناه هو بيت زوج يلمني، بصقت على كل أحلامي وانتظرت «العدَل»، قرأت «تحفة العروس» واستمعت لأشرطة السحر الحلال استعدادا لتقديم فروض حسن التبعل، لبست الحجاب وحضرت دروس الأخوات اللائي كن يتنافسن في اللبس والحلي أكثر مما يتنافسن على التحصيل العلمي، وصار يتقدم لي عرسان الواحد ينسيك في الآخر، عاهات مستديمة على كوارث بشرية ومخلفات حضارية، بحكم أن المحجبة قنوعة وتريد الدار الآخرة، ولا تهتم بشكل ولا شهادة ولا عرس ولا مهر ولا حتى قليل من الاعتبار، ما سد نفسي على أب الزواج وأم الارتباط..
كبرت، وجربت العمل مع الكثير من أبناء «شحيبر»، ذقت البطالة واكتويت من المحسوبية والزبونية، الواحد صار يدعي «اللهم زمبقنا» على الأقل تسوى وضعيته ويعترف بوجوده ضمن الآدميين..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى