شوف تشوف

الرأي

مفهوم الجار والجوار

إذا كان تعريف الجار أنه: من هو قريب منك وتعرف أخباره، فإننا أصبحنا ليس فقط نسمع أخبار جيراننا بل نراهم رأي العين، أصبحنا نرى جلود الجائعين كيف التصقت بعظامهم، كما نرى المترفين الذين يتفننون في قضاء أوقات الترفيه والمتعة.
يقول توينبي في هذا الموضوع: «إن معنى التاريخ يتغير حسبما تزداد معلوماتنا التاريخية، فكل إضافة إلى التاريخ تغير معنى التاريخ كله، إن معنى التاريخ قبل عام 1914 م تغير بعد اندلاع الحرب، غير أن عصرنا يتميز بميزتين إحداهما التسارع الذي حصل نتيجة لتحطيم الأبعاد بعد تقدم التقنية الحديثة، والميزة الأخرى أن الماضي اكتسب معاني جديدة بسبب خبراتنا الحالية، وبسبب اكتشاف علماء الآثار من عالم النسيان حضارات لم تكن معروفة)، وأضيف هنا فقرة مما جاء في مقدمة كتاب (أيها المحلفون):
(الجهل هو الذي يحوِّل الإنسان إلى أداة، وعدم نشر المعرفة هو أكبر الجرائم، والذين يكتمون العلم مهددون بالنار، هذا هو الدين وكثيرا ما يختلط الأمر، ولا نجاة إلا بالمعرفة، والمتدين الجاهل مثل غير المتدين الجاهل. هذا ما يعلمنا التاريخ، والتاريخ مصدر المعرفة والعلم، والله سبحانه يردنا إلى التاريخ حين يريد أن يثبت صدق قوله فيقول إن لم تصدقوا هذا (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).
التاريخ هو مرجع القرآن، وبكل التواضع والثقة أرى أنه ينبغي أن أقدم وجهة نظري كمسلم يراقب الساحة العالمية، كيف ينبغي للمسلمين أن يقدموا أنفسهم في هذا العالم الصاخب؟
على المسلمين فورا أن يثقوا بالتاريخ، وأن لا يشعروا بمركب النقص فيظنوا أن التحاكم إلى التاريخ إعراض عن الله، بل التحاكم إلى التاريخ هو لب التحاكم إلى الله، لأن الله تعالى هو الذي حكم التاريخ بسنن لا تتبدل ولا تتغير، والتاريخ هو الحكم الفصل، والتاريخ هو آيات الآفاق والأنفس، والتاريخ أم العلوم، ورحم المعارف البشرية، حتى علم الاجتماع وعلم النفس هما من علم التاريخ، والذي جعل ابن خلدون عالماً اجتماعياً لم يشهد التاريخ مثله إنما هو كونه مؤرخا قبل أن يكون عالم اجتماع، إن علم الاجتماع انبثق مع علم التاريخ.
التاريخ هو معرفة (كيف بدأ الخلق). تاريخ الخلائق من الذرة إلى المجرة، ومن بدايات الحياة الأولى إلى المجتمعات المتطورة، والذي يجهل التاريخ لا يوثق بعلمه، وهو متبع لهواه شاء أم أبى. التاريخ هو كلمة الله المجسدة، كلمة الله المادية المرئية والملموسة، التاريخ هو سنة الصيرورة، سنة الزيادة في الخلق (يزيد في الخلق ما يشاء). التاريخ هو الذي يغربل الصواب من الخطأ، وصدق الله تعالى (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). الذي له العاقبة (وهو الخير والأبقى) ولا يُعرف الأبقى إلا من خلال الزمن، فكل ما ثبت نفعه خلال الزمن، خلال أطول زمن هو الحق، حتى يأتي ما هو أنفع وأبقى).
رؤية جغرافية اجتماعية: لننتقل الآن إلى رؤية جغرافية واجتماعية بعد هذه الرؤية التاريخية. لقد توافق أن يكون تواجدنا في هذا العالم، أو في هذه القرية، قرية الكرة الأرضية، في عصر عُرف بــ (عصر المعلوماتية) وفي موقع جغرافي عرَّفه الباحثون والكتاب بأسماء عديدة، فقد وصف مالك بن نبي في دراساته تحت عنوان مشكلات الحضارة العالم الحالي بأنه مقسوم إلى محورين: الأول هو محور واشنطن ـ موسكو. والثاني هو محور طنجة – جاكرتا.
الأول هو محور الإنتاج والصناعة والفعالية والذوق الجمالي. والثاني هو محور الفقر والكسل والجهل. وسماه كتَّاب آخرون بـ خط الشمال – الجنوب، فالمفكر الفرنسي (جاك أتالييه) قال في كتابه (آفاق المستقبل): (إن أحد المخاطر الخمسة التي تهدد العالم بأسره هو الانقسام بين الشمال والجنوب، وإن نذر الشر مرتسمة في الأفق، ويحذر من أن الحرمان الذي تعانيه بلاد الجنوب سيولد لديها اليأس، وهو يفضي بدوره إلى التعصب والتطرف).
والمخاطر الخمسة حسب وجهة نظر أتالييه هي: تلوث البيئة، السلاح النووي، جراحة الكروموسومات ( التلاعب بالمورثات الإنسانية)، المخدرات. الانقسام بين الشمال والجنوب، كما يُسمى هذا الوضع أيضاً بأسماء أخرى منها خط المستضعفين والمستكبرين.
والأبحاث الحديثة تعرِّف هذه الأوضاع باسم (أصحاب الامتيازات) الذين يمثلون 20% من سكان العالم، والذين هم أصحاب محور الشمال، أو محور موسكو – واشنطن، أو محور المستكبرين، وباقي العالم الذين يمثلون 80% وهم في المحور المقابل، محور الجنوب، أو محور المستضعفين؛ فأين مكاننا نحن المسلمون في هذه الرحلة البشرية على وجه الكرة الأرضية في هذا الوقت من هذا العصر؟
لا نحتاج إلى تفكير كثير كي نجيب على هذا السؤال، إننا في قسم الجنوب، في قسم المستضعفين، إننا من الـ 80% الذين يتحكم فيهم الــ 20% من أصحاب الامتيازات، إننا من محور طنجة – جاكرتا!
مما يُسِّر أصحاب الامتيازات في محور الشمال أن يتمكنوا من الاستمرار في الهيمنة على الجنوب، ما ذكره صاحب كتاب (أمراء الإرهاب – لنبيل هادي) من أساليب على شعوب محور طنجة – جاكرتا مايلي:
(غسل الأدمغة بواسطة الاعلام، والصرعات التجارية والاجتماعية، والتشجيع على زيادة الإنفاق العسكري بشكل يرهق معه اقتصاديات البلدان، ويخفض من قيمة عملاتها، ويزيد من المعضلات المعيشية، أو افتعال وتغذية الخلافات القبلية والطائفية والدينية، وتغذية الخلافات والنزاعات بين الأقطار والدول الفقيرة النامية لاستنزاف طاقتها في حروب إقليمية مدمرة).
بعد هذه الرؤية الشاملة للتاريخ والجغرافيا نعود إلى موضوعنا الأساسي أي موضوع (التعددية): ما هي الصورة التي في أذهاننا عن هذا الموضوع؟ وكيف ننظر إلى الشخص الذي ليس من مذهبنا أو ديننا أو ليس من طائفتنا أو حزبنا؟ ولكنه من محور الجنوب أي من مجموعة الـ 80% الذين يسيطر عليهم أصحاب الـ 20% من أصحاب الامتيازات، والذين يحكمون هيمنتهم علينا من خلال تغذية الخلافات بيننا في هذا المجال؟
كيف ستكون الصورة إذا أصبحت أحترم المختلف عني، وأقدر له فهمه في دينه أو مذهبه، ولا أحرص أن أجعله يتبنى ديني أو مذهبي، وإنما أتعاون وإياه لنفهم كيف أصبح كل منا في هذا الدين أو الطائفة أو المذهب؟ وما هي الظروف التاريخية التي وضعتنا حيث نحن؟ إن هذا الفهم يختلف كليا عن محاولة إقناع (المختلف عني) بأن ما يتبناه خطأ وأن الذي أتبناه هو الصواب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى