شوف تشوف

الرئيسية

معركة الانتصار على الفيروسات

بقلم: خالص جلبي

هل يخطر في بالنا لماذا نحتفل بالعرس في حفلة صاخبة؟ إنه إعلان انتصار الحياة على الموت بتوالي الأجيال. هل نعلم لماذا ينتصر الإنسان على المرض والضعف والشيخوخة والموت بالانبعاث؟ لأنه من الحي الذي لا يموت الوجود ضد العدم، فتوكل عليه.
أمام تهديد الكورونا من غزاة الفيروسات، يفكر العلماء في طريقة جديدة للقضاء على الفيروسات بالفيروسات، وقتل المجرمين بيد مجرمين، ومعها في الوقت نفسه فتح نافذة جديدة على فهم الحياة.
هل يمكن أن تمرض الفيروسات كما يمرض البشر، وتصاب الطيور بالأنفلونزا، والكلاب بالسعار؟ وهل يمكن للرشح أن يأخذ بردا؟ أم هل يمكن لفيروسات الإيبولا الدموية أن تتوعك؟ يجيب عن هذا الطبيب الفرنسي ديديي راؤول (Didier Raoult)؛ من كلية البحر المتوسط للطب في مدينة مارسيليا؛ إن هذا ممكن بالطبع (وبالعامية ليش لا ؟).. يتابع؛ إن هذا أصبح ممكنا جدا منذ أن عثرنا على السبوتنيك (Sputnik)! أصبحت أشياء كثيرة كانت بحكم المستحيل ممكنة. وهذا يفتح الطريق على فهم جدلية الممكن والمستحيل، فقبل قرون كان فتح البطن مستحيلا، واليوم يقوم بها أصغر جراح. وكان من يتحدث عن الرحلة للمريخ مجنونا، وهي رحلة تم إنجازها على ظهر الباثفايندر حين اندلقت من بطنها عربة السوجرنير، تسبح بحمد الرحمان على ظهر الكوكب الأحمر الغاضب وتشم روائح أكاسيد الحديد، وتقول لا الريح ريح زرنب ولا المس مس أرنب. ومن أراد الوصول إلى مكان عمل الطبيب راؤول فعليه قراءة مثلث التحذير في كلية الطب (خطر بيولوجي Biohazard)، قبل تجاوز عتبة الدخول إلى مركزه الذي أصبح مختبرا مرجعيا (Reference-Laboratory) للكائنات الخطيرة والمعدية، التابع لمنظمة الصحة العالمية، ما يشبه مكتبة المجرمين من العضويات الدقيقة، أو حديقة حيوانات، ليس للضواري والسنوريات، بل الجراثيم المهلكة والفيروسات القاتلة والفطريات المبيدة، من كل صنف زوجان، ومهمة هذا المخبر جمع العينات وتبريدها 80 درجة تحت الصفر وتزويد المخابر والمؤسسات في العالم، من هذه الكائنات الصغيرة المدمرة، كأنها الجان في بلاد عبقر.
يصف الدكتور راؤول ما يقوم به أنها رحلة في عالم جوليفر (ليلي بوت)، حيث التعامل مع كائنات في غاية الدقة، لا يمكن الدخول إليه بدون مجهر إلكتروني، يكبر الكائنات 60 ألف مرة ويزيد، وقد تمكن بصبر ومتابعة من الكشف عن ميكروبات جديدة لم تكن معروفة من قبل، وحين يصفها كأنك تسمع منه وصفا لوحيد القرن الخرتيت أو فرس النهر أو أبو الهول.
ولكن ما هو السبوتنيك الذي تحدث عنه؟ إنه كشفه الجديد في عالم المغيبات. وكلمة سبوتينك، أو (صدمة) السبوتنيك هي قفزة الروس إلى الفضاء، حين أرسلوا قمرهم الفضائي عام 1957م فسبقوا الأمريكيين، مما أطلق شعار (صدمة السبوتنيك Sputnik-Shock). وبدأت أمريكا في تحديث نظامها التعليمي، حتى سبقت أهل الأرض جميعا باعتلاء ظهر القمر. والطبيب الفرنسي أحب أن يطلق التعبير نفسه، بالإثارة ذاتها على فيروسه الجديد الذي اكتشفه، فقد تعرف على فيروس بقطر50 نانو، يحمل 21 جينا فيه 18300 حمض نووي. (النانو وحدة قياس تبلغ واحد من مليار من المتر)، وهو حجم يبلغ من الصغر والدقة ما هو أقل من جزيئات دخان سيجارة. وأهم ما في الفيروس الجديد أنه مرض المرض، فهو يصيب الفيروسات بالمرض، وهكذا فالدواء النجس له دواء أنجس كما يقول المثل، ويضحك الطبيب راؤول من هذه المقارنات. وهذه الظاهرة من إصابات الجراثيم بالجراثيم، معروفة في الطب منذ زمن طويل، فهناك من الخلايا ما تسمى (البالعات أو الهاضمات Bacteriophage) وهي ضرب من الخلايا تلتهم الفيروسات، ويطلق عليها (طفيليات الطفيليات). وقد كشف السويسري فيرنر آربر في الستينات عن آلية عجيبة سماها المقصات في كيفية قضاء الخلايا على الفيروسات بواسطة أنزيمات قاصة مثل المقص، ويعقب راؤول بأنه مع اكتشاف فيروس السبوتنيك فقد عثر على ملتهمات الفيروسات من الفيروسات، وتعلق مجلة الطبيعة العلمية (Nature) على الحدث بقولها، إن هذه المعلومات ستكون لها تأثيرات كونية، وتشق الطريق إلى علم المستقبل. وأهمية هذا الفتح المبين في طريق العلم، أن الطب استطاع القضاء على الجراثيم بالصادات الحيوية (Antibiotics) وعلى الفطريات بمحاصرتها (Antimycotics)، ولكنه وقف حتى اليوم عاجزا عن كفاح الفيروسات، بسبب طبيعتها الغامضة جدا، واختبائها في الخلايا، ولم يعمل الأطباء لكفاحها إلا في اللقاحات، من أجل تدريب المناعة في البدن على التعرف عليها إذا دخلت الجسم، ومحاصرتها قبل أن تتمسكن ثم تتمكن، وهو ما يشبه عمل حرب الشوارع أو قتال العصابات؛ فلا بد من نزالها في داخل الخلية، هذا إذا عرفنا أن حجم الفيروس إلى الخلية، هو مثل كرة قدم إلى ساحة ملعب بلدي. وحتى أفضل الأدوية مثلا في كفاح الإيدز، لم تستطع القضاء على الفيروس، وكل ما فعلته هو لجمه إلى حين. ولذا فالفكرة التي جاء بها الطبيب الفرنسي واعدة جدا بطريقة مختلفة في استراتيجية القضاء على الفيروسات، قتل المجرمين بيد المجرمين!
وما ذكرناه ليس أكثر من خيط أمل في الاستراتيجية الضخمة في هذه المعركة، فليس من المعروف وهو غير مؤكد كم هو عدد الفيروسات التي يمكن القضاء عليها في هذه المعركة المصيرية؟ وهناك مسألة تقض مضجع الباحثين، فإذا كانت الفيروسات قابلة للعدوى والمرض والرشح والتعب، أفلا يعني هذا أنها كائنات حية؟ ويقول أويجن كونين (Eugene Koonin) من المعهد الصحي الوطني الأمريكي، إنها مسألة أثارت الكثير من الإثارة بين جماعة الباحثين في علم الفيروسات. وبذلك فإن الحاجز المزعوم بين الفيروسات والعالم الخلوي الحي، قد تم اختراقه وتجاوزه.
كانت الفيروسات حتى اللحظة قطع ميتة من مادة مبلورة من الحوامض النووية مثل الملح والسكر، ولكن فيها إمكانية التكاثر، ولذا قال الطبيب الفرنسي: «حية أم ميتة دعونا لا نتنازع حول الكلمات»، وبالنسبة إلي فأي نظام عنده قدرة التكاثر وتطوير نفسه ونسخ نفسه من جديد، فهو عندي كائنات حية عاثت.
ومن يقول هذا الكلام رجل ذو وزن في هذا العلم، وحين مقابلته تقوم السكرتيرة بتوزيع ملفه الشخصي بهدوء؛ فإنجازاته زادت عن ألف مقالة و180 فصلا في كتب علمية مرجعية و17 عملا تم نشره ويحمل فخر اكتشافه جرثومة منحت اسمه (راؤول تيلا Raoul tella).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى