مظاهرات في الدار البيضاء ومراكش تزامنا مع زيارة وفد من أمريكا الجنوبية
يونس جنوحي
إذا أرسل لك رجل ما رسالة، حتى لو كانت دعوة للعشاء، فإنه سيُرفقها بهدية. ربما تكون الهدية ورودا أو مجوهرات. الإساءة والمضايقات الناجمة عن هذه العادة، في دوائر رجال القانون، ظاهرة وواضحة. لا يوجد مغربي يُؤمن أنه قد يستطيع مجرد تمني الحصول على العدالة إلا إذا أرسل هدية إلى القاضي.
عندما يحتاج السلطان المزيد من المال، فإنه يقوم بزيارة رسمية إلى جهة ما ويتلقى «هدايا» من رعاياه، ويقوم موظفوه بتدوين ما إن كان كل رجل أعطى ما يكفي.
الگلاوي ليس مجرد باشا مراكش فقط، إنه على رأس مجموعة قبائل «گلاوة»، التي تحتل نفوذا ترابيا يتجاوز جبال الأطلس. بعد مجموعة من الحروب القَبَلية، والتحركات السياسية الذكية والزيجات الحكيمة أصبحت عائلته تبسط قوة قاهرة في الأطلس كله تقريبا.
هو، أيضا، بدوره يتلقى «هدايا» إقطاعية من أبناء شعبه. إذا أظهر أي رجل تمردا، قد يتلقى دعوة لإعادة النظر في قراره. التقاليد خللٌ متأصل في النظام الحالي. التزم الفرنسيون، منذ زمن طويل، بالتقاليد المحلية وبرغبتهم في التقليل من التدخل قدر الإمكان في الأفكار المغربية، فقد قاموا بتأخير الإصلاحات إلى أن آن أوانها الآن.
صار الگلاوي الآن أكبر حتى من باشا وزعيم إقطاعي. إنه شخصية. وفي المغرب هذا أهم من كل شيء. سُلطته هائلة. إنه يحكم أكثر من مليون شخص. تجدر الإشارة، أيضا، إلى أن الأمر يتجاوز بكثير السلطات القانونية العادية، إذ إن الأمر بالنسبة له شخصي.
قبل زيارتي ببضعة أشهر، دُعي بعض مندوبي الأمم المتحدة من دول أمريكا الجنوبية إلى جولة في المغرب. بعض القادة الوطنيين قرروا التظاهر لإقناع الزوار بعدالة القضية الوطنية.
مئات الناس تجمّعوا أمام الفندق في الدار البيضاء. الفكرة كانت إلقاء بعض الخُطب ورفع الشعارات، لكن، كما يقع في حالات مماثلة، خرجت المظاهرة عن السيطرة.
بعض المتظاهرين، الذين كانوا أقلّ تحكما في أنفسهم، بدأوا يرمون الحجارة على النوافذ. استُدعيت الشرطة ووقعت مواجهة عنيفة قُتل فيها شخصان وجرح الكثيرون.
بعد ذلك انتقل الوفد القادم من أمريكا الجنوبية إلى مراكش، حيث تم الترتيب لمظاهرة أخرى.
اجتمع الزعماء من البلدات المجاورة وجمعوا حولهم المجموعات الصغيرة من الأتباع المحليين لحزب الاستقلال.
امتلأت المدينة صخبا وغطى السرور ومظاهر البهجة على أصوات الثرثرة، وهو ما كان يعني أن مظاهرة ما أو مواجهة قد تعني فرصا للنهب والسرقة.
ربما كان هؤلاء المنتمون للطبقة الراقية هم الذين بذلوا جهدا في رفع الحجارة الثقيلة ورميها في اتجاه نوافذ الفندق الذي كان أفراد الوفد ينزلون فيه.
المُدير، وهو ما كان طبيعيا ومتوقعا، اتصل بالشرطة.
وصلت فرق البوليس الفرنسي المسلحة وكان حدوث مواجهة أخرى حتميا، وربما تخللته إراقة للدماء، لكن الباشا كان رئيسا للشرطة وقاضيا في الوقت نفسه. وللتعامل مع حالة التهديد، أرسل قوة.. رجلا واحدا، رئيس الخدم لديه، وهو زنجي كريم وذكي جدا.
هذا الخادم تمشى في اتجاه الدرج المؤدي إلى باب الفندق وخاطب الحشد المختلط، والمكون من الخطباء وحاملي الحجارة. كان خطابه نموذجا للقول المختصر، إذ صاح فيهم:
-«اذهبوا إلى بيوتكم أيها الحثالى!».
ذهبوا إلى منازلهم واختفى رجال المنطقة بالمرة. كان المُخربون يرشدونهم إلى الطريق، وهكذا تفرق حلفاؤهم المحليون وأنصارهم الاعتياديون. الوطنيون القادمون من مدن أخرى قرروا بدورهم الانسحاب وفق خطة تراجع استراتيجية. في غضون خمس دقائق، كانت القضية قد انتهت وعاد رئيس الخدم وحيدا إلى قصر الباشا.
وبطبيعة الحال، فإن العديد من الأوروبيين كانوا لينظروا بارتياب إلى هذه الطريقة السلطوية. بينما كان آخرون ليستدعوا الشرطة لكي تتدخل بالقوة وتعطي الأمر بإطلاق الرصاص ومباشرة اعتقالات وسط الحشود.
آخرون كانوا ليتصلوا بعضو من المجلس لتحقيق مصالحة ولسعوا إلى «صيغة» مُرضية لكل الأطراف.
رغم كل هذا فالمقصد، في الوقت الحاضر، يتجلى في أن رئيس الخدم استخدم عادة مغربية تقليدية كانت مفهومة جيدا وأثبتت نجاعتها.