بقلم: خالص جلبي
التقيت في إحدى دول الخليج بطبيب جراح اختص في أمريكا، فودعها وحمل عشرة من أطفاله من جنات ونهر إلى بلاد الحر والغبار والضجر. سألته: لماذا القدوم؟ قال: خشيت على أولادي من الفتنة، فأحضرتهم إلى بلاد تحكمها الشريعة ويسمعون اللغة العربية! قلت له: ولكن العربية غادرت هذه البلاد وحلت محلها لغة ريتشارد قلب الأسد، وأما الإسلام فقد غادر هذه البلاد منذ أيام كافور الإخشيدي وقراقوش!
لعل السؤال الأكبر في المهجر، هو لماذا غادر القوم أوطانهم، حيث تشرق الشمس، إلى بلاد مثل كندا تغرب فيها الشمس وتنزل الحرارة إلى أربعين درجة مئوية تحت الصفر، ما يذكر بطريق البطريق في بلاد الأنتراكتيس؟ لماذا تركوا بلادا يرفع فيها الأذان إلى بلاد لا يرفع فيها أذان ولا يدق فيها ناقوس، ويعمل الناس يوم الجمعة؟
كان دافع الهجرة في الأغلب إما هربا من براميل طاغية دمشق، أو بطالة قاتلة، أو تربة علمية قاحلة. فكان الرحيل إلى أرض تفيض لبنا وعسلا، وماكينة عمل محكمة، واقتصادا زاهرا، وجامعات راسخات أشد من الجبال الراسيات.
إن من يضع قدمه في سلم الهجرة ويصعد إلى سقف العالم، يودع الوطن فلا يعود؟
هل يودع بلاد الإنصاف والعدالة والدقة والوضوح إلى بلاد العتمة والفوضى والوسخ والرشوة والمحسوبية؟ مع هذا يبقى السؤال معلقا حول مصير الأولاد والذراري.
يجد المهاجر العمل والرزق والكرامة والمساواة إلى حد كبير، ولكن مصير الأولاد مختلف، في ظل ثقافة ماحقة ولسان طاغي وثقافة مهيمنة، فلا يرطنون إلا بالفرنساوية، لغة لويس الرابع عشر، أو لسان ريتشارد قلب الأسد. ثم بأي دين سيدينون؟ وإلى أي قبلة سوف يتوجهون؟
كندا مثلا بلد يستقبل كل عام 1 في المائة من عدد سكانه، ما يزيد على 300 ألف مهاجر، بعائلاتهم وقضهم وقضيضهم، فيطحنهم في أحشائه ويستعملهم (براغي = قطع غيار) في ماكينته العملاقة، ويبني بهم مجتمعه الرغيد، كما تفعل معدتنا والأمعاء في غذائنا اليومي الذي نتناول، هذه هي طبيعة الأشياء فلا نستغرب. الماء يهبط إلى الأسفل، والغمام يعانق السماء، والطيور تبحث عن الحبوب والدفء. وسمك السلمون يغادر نهر فرايزر فيمضي في رحلة 10 آلاف كلم إلى المحيط، وكذلك طبيعة الهجرات. حاليا ربما أصبح 10 في المائة من سكان مونتريال في كندا من العرب، ولربما فاق عدد سكان شمال إفريقيا مائة ألف أو يزيدون. الكنديون ومن يخطط لهذا البلد من حكماء خلف الستار مثل قطعة المغناطيس تجذب برادة الحديد من العالم بين صيني وصربي، وفيتنامي وطلياني، ولبناني وسوري يدركون ماذا يفعلون. إنهم لا يراهنون على الجيل الأول ولا الثاني، بل الثالث في مدى ستين عاما ويزيد.
إن كان المهاجرون على درجة من الوعي بفهم هذا المجتمع الجديد، فبنوا لأنفسهم منارات من العلم والهدى، حافظوا على أفضل ما في هذا المجتمع، من تعليم وحرية تعبير وإبداع فكري وفني. وإلا ازدردهم المجتمع بفعل ثقافته القوية المتفوقة الكاسحة، فتحولوا إلى قطع غيار ونسوا ثقافتهم التي منها جاؤوا وإليها ينتسبون. لربما بقيت أسماؤهم هذا إن بقيت لهم أسماء.
الإسلام غير مرتبط باللسان، والقرآن يقرر هذا من تعدد الألسنة ووحدة المفاهيم، فيقول: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه». والمهم في أولادكم حمل القيم الإيجابية من روح العدل، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وإقامة الصلاة، وهي قيم مكررة في كل دين ومذهب إصلاحي أن لا يسرق ولا يزني ولا يقتل ولا يكذب ولا يفسق، ويمكن قراءة تعليمات لقمان لابنه في هذا. وحين قدمت ببناتي إلى كندا أوصيتهن بثلاث، احذرن من الإباحية والعنصرية وروح الاستهلاك، وأقمن الصلاة لذكري.
دعيت إلى مؤتمر في مدينة كيبيك بورقة حول إعادة تصنيع العقل المسلم، وهناك تعرفت على أكثر من سيدة كندية اعتنقت الإسلام، وغيرت في طريقة لباسها، وهو ليس بالأمر السهل، ومنهن سيدة حاربها أبناؤها، ولكنها أصرت على تمسكها بدينها، وقد أعجبت بطرحي وطلبت بحرص وحرارة أن تترجم ورقتي، وتبرعت أخت ثانية بلهفة لترجمة المقالة وتوزيعها على الناطقين بالفرنسية في كيبيك، حيث كنت محاصرا ببحر من المتكلمين بالفرنسية، وأنا أتكلم الألمانية والإنجليزية، وليس لي إلمام بالفرنسية ولا أرغب في ذلك، فقام رهط من الشباب التونسيين بمهمة الترجمة ونقل الأفكار.
ومن أغرب ما حدث أني اجتمعت بسيدة فرنسية من كيبيك اعتنقت الإسلام عن طريق الإنترنت؛ فلما سألتها: كيف حدث هذا؟ قالت: من القرآن، فقد رأيته يتحدث عن الأرض والماء بنسب ثبتت عن طريق الجغرافيا، وهي حقيقة مذهلة من رجل عاش في مكة، ولم يكن بحارا ولا عالم جغرافيا، فالقرآن من الله الذي يعلم السر وأخفى. مع هذا فحين سألتها عن الفصل فزوجها يقفز من غرفتها المغلقة إلى غرفتنا قالت: هكذا جاء في الحديث! قلت لها: ولو أتيتك بأحاديث تسمح بالاختلاط، هل أنت فاعلة؟ فأبت وأصرت على موقفها! هنا شممت رائحة التعصب، وتركتها لحماسها الجديد.
يقول عالم النفس «هدفيلد» إن أعظم الهزات العاطفية التي يتعرض لها إنسان حين ينفك من عقدة، قال لي بعضهم إنه في مسجد واحد في مونتريال كان يعلن ما لا يقل عن ستة أشخاص إسلامهم في الشهر الواحد، ولكن المشكلة هي في تتبعهم وتثقيفهم. ومن الإحصائيات التي ظهرت هذا العام أن عدد المسلمين في كندا تضاعف مرتين؛ وفي إيطاليا قفز عدد المسلمين خلال عشرين سنة من عشرة آلاف إلى مليون، في الوقت الذي لم يتغير عدد سكان إيطاليا. وفي أمريكا، حسب إحصائيات قناة «ديسكفري»، فإن 22 ألفا يعتنقون الإسلام سنويا. وفي الواقع ما ينقص المسلمين ليس العدد بل النوعية، فالمسلمون اليوم غثاء كغثاء السيل، ويعجب المرء لقوة الإسلام الذاتية في الانتشار «والله متم نوره ولو كره الكافرون».
نافذة:
يجد المهاجر العمل والرزق والكرامة والمساواة إلى حد كبير ولكن مصير الأولاد مختلف في ظل ثقافة ماحقة ولسان طاغي وثقافة مهيمنة
الله ينورك يا دكتور فعلا نحتاج إلى فهم جديد ووعي معاصر للدين بعيدا عن نزوعات الإباحية والعنصرية وروح الاستهلاك