حسب القرآن، فالتاريخ والطبيعة من مصادر المعرفة؛ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون. فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم، قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين. وحسب الفيلسوف إقبال، فهو يضيف مصدرا ثالثا هو علم الباطن التصوف. وحسب الغزالي القديم، فهو يرى أن ما يدخل منافذ الحس تصل مكدرة الدلاء، ولكن الآبار تضخ ماء نقيا، أي القلب وما يوحي من أفكار. ولنبدأ بالبند الأول، فهل يمكن اعتبار التاريخ مصدرا موثوقا للمعرفة؟
يعتبر التاريخ قصير العمر نسبيا، مقارنة بوجود الإنسان على وجه الأرض، حسب ما كشفت عنه البحوث الأنثروبولوجية، فإذا كان عمر الأرض قدر بــ[4,6] مليارات سنة، فإن رحلة الخلايا الأولى بدأت بعد ذلك بـــ[800] مليون سنة، وكانت الأرض قفرا بدون حياة. أما بدايات الحياة للكائنات (عديدة الخلايا)، حسبما وصل إليه علم (الباليونتولوجيا) الحديث بكشوفاته الأخيرة في الصين، فقد جرى تحديدها في ما يشبه (الانفجار العظيم) ليس من النوع الكوني (الانفجار العظيم الكوني تم قبل 13.7 مليار سنة)، بل الحيوي على شكل (انفجار عظيم بيولوجي)، حيث ظهرت في وقت متقارب معظم الكائنات الحية المنتسبة للحياة الحالية، وحددت قبل [530] سنة. في حين أن بدايات الإنسان التي وصل إليها العالم الأنثروبولوجي «تيم وايت» في الأرض الجافة في الحبشة، قفز فيها الرقم إلى 4,6 ملايين سنة، حينما كشف عن هيكل «أرديبيثيكوس ـ راميدوسARDIPETHICUS RAMIDUS»، ويتوقع أن يمسك قريبا بالجذور الأولى لبدايات الإنسان التي قد تضرب حتى عشرة ملايين سنة، ويتوقع أن تكون في حدود خمسة إلى سبعة ملايين سنة، وحين تحدث داروين عام 1859 عن أصل الأنواع، نقضه كالفن، فيلسوف الفيزياء، الذي اهتدى إلى رقم 273,15 السلبي دون الصفر المطلق للحرارة كحد أقصى لأي برودة في الكون، ولكنه قال عن الشمس إن عمرها ملايين السنوات، حسب نظريته في الضوء يومها، ولم نعرف عمر الشمس الفعلي وكم سوف تستمر في بث الضوء إلا مع القرن العشرين، حين اهتدى كل من فون فايتسكر الألماني، وصديقه هانس بيته إلى أن الوقود المستخدم في الشمس هو التحام هيدروجيني، وهذا يعني أن عمر الشمس ليس كما افترضه كالفن بملايين السنوات، بل بالمليارات، وهكذا قفز العلم مجددا يدعم نظرية داروين عن طريق الضوء. أما الثورة الزراعية فهي قريبة العهد نسبيا، فلم تدشن سوى قبل تسعة آلاف سنة، في حين أن انتشار الإنسان الحالي من شرق إفريقيا ليعمر الأرض، قد بدأ قبل حوالي مائتي ألف سنة وقد يكون أكثر، فاستقر في الشرق الأوسط قبل 65 ألف سنة، وانتشر في أوروبا قبل 30 ألف سنة، وعبر مضيق بهرنك بين آسيا وألاسكا ليستقر في الأمريكيتين قبل 12 ألف سنة، قبل أن تصل إليهم يد الإسبان بالإبادة الجماعية. أما بدايات بزوغ الحضارات فكأنها البارحة، حيث أشرقت شمسها من انطلاقة الإنسان من العصر الحجري قبل ستة آلاف سنة، ليدشن عصر الحضارة، الذي تميز بأربعة فتوحات عجلت بتسريع نظم الحضارة وتملك أدوات تطويرها، وكانت في (اختراع الكتابة)، و(تدشين التجارة والتعامل بالنقد) و(تأسيس البيوت للسكن = والله جعل لكم من بيوتكم سكنا)، و(اكتشاف المعادن وصقل الأدوات)، وكل ذلك تم من خلال تفاعل اليد مع الدماغ المتطور. فالحضارة تصور وعقلانية في الدماغ، وإبداع تقني من اليدين. أو هي تفاعل الإنسان مع التراب والوقت، حسب مصطلحات المفكر بن نبي. وهكذا فالتاريخ الإنساني المكتوب الذي بدأ مع اختراع الكتابة، التي بدأت قبل حوالي خمسة آلاف سنة، إذاً قريب العهد، صغير السن، تافه المحتوى، مضطرب النصوص، تحفل كتاباته المنقولة بالكثير من أهواء الإنسان وكوارثه، فالنصوص التي نقلت إلينا أشبه بسجلات الشرطة عن ملهاة الملوك الكبرى: الحروب، فكما كانوا يتسلون بالصيد وقتل الحيوان، فإن الحروب كانت منظرا مثيرا لهم، وهم يتأملون عمليات الذبح الجماعية بين أيديهم من العبيد، الذين يتقاتلون ويسفكون دماءهم تحت الأوامر الموجهة لقتل بعضهم البعض. كانت وما زالت حتى يتم استبدال قانون (نفذ ثم اعترض) بقانون (لا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق)، وبتحويل الإنسان من (آلة) إلى (إرادة). وهكذا فإن (دارا) الملك الفارسي، خلد لنا على الصخر انتصاراته وفتوحاته ومجازره بكثير من الفخر والاعتزاز، ولكننا بالكاد نشم رائحة الإنسان الفعلية، من عطر النبوة، أو إشعاع القديسين والفلاسفة والمفكرين. لكنها مع ذلك هي النصوص التي أعطتنا فكرة عن بدايات التاريخ، وكيف عاش الإنسان، والوضع الاقتصادي، وتركيبة المجتمع السكانية والطبقية، والدين وتأثيره، وعقيدة اليوم الآخر، التي تجلت بأعظم زخمها في الحضارة الفرعونية، التي كانت خلف البناء العملاق للأهرامات، والنظام الأخلاقي والسياسي، وعلى أي نحو كان يفكر الناس، وهذه الفكرة تفتح النافذة لفكرة التقدم في التاريخ، فبدايات التشريعات مثل حمورابي ألقت الضوء على الوضع التشريعي قبل آلاف السنوات، وبمقارنته مع وضع الإنسان الحالي يمكن الإمساك بفكرة التقدم في التاريخ، والتقدم المعني به هنا التقدم الإنساني وليس التكنولوجي، فالتقدم التكنولوجي حاصل أكيد، ولكن المشكلة التي تثار هي في التقدم الإنساني، حتى أن هناك من يعتقد بأن نظام العبودية ساري المفعول مع تغير الاسم لا أكثر، وهذا يحتاج إلى بحث تفصيلي منفرد؛ هل التقدم حقيقي في التاريخ؟
نافذة:
الحضارة تصور وعقلانية في الدماغ وإبداع تقني من اليدين أو هي تفاعل الإنسان مع التراب والوقت حسب مصطلحات المفكر بن نبي