مستقبل المثقف الانهياري
بين الفينة والأخرى، يطل على المشهد الثقافي الفرنسي «مبشر» أو «نذير» للإعلان عن «انحطاط» أو «أفول» الثقافة الفرنسية ونهاية المثقف. وقد تخصص بعض الباحثين الأنجلوساكسون في مثل هذه الفتاوي والدعاوي، وساندتهم في ذلك بعض الصحف والمجلات مثل «تايم»، «نيويورك تايمز»، «الغارديان» وغيرها التي خصصت لهذه التيمة حيزا وافرا. على أي كانت الثقافة الفرنسية ولا تزال هاجسا مؤرقا للأنجلوساكسون..
الكتاب الأخير للمؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند، وهو بروفيسور شرفي للتاريخ المعاصر بجامعة تل أبيب، والصادر عن منشورات «لاديكوفيرت» بعنوان: «هل هي نهاية المثقف الفرنسي؟ من زولا إلى ويلبيك»، حدث فكري وازن يستحق القراءة والمتابعة. ليس صاحبه بمبشر ولا داعية، بل مؤرخ مهمته فسخ وفضح الأساطير المؤسسة للهويات الضيقة وللاتباع العشائري والقومي.
في هذا المؤلف تصدى شلومو ساند لموضوع سجالي ساخن حظي، لما كان طالبا بجامعة «السوربون»، باهتمامه العلمي والثقافي، ألا وهو موضوع المثقف الفرنسي، موقعه، سلطاته، مواقفه وأزماته. كما أضافت معاشرته لبعض من هذه الوجوه الثقافية التي خالطها، قيمة فكرية لأشغاله ودراساته. وتتأتى شهرة شلومو ساند من انتمائه إلى مدرسة المؤرخين الجدد التي جددت البحث في الأسس التاريخية لدولة إسرائيل، بإلقاء الضوء على بعدها الميثولوجي والاستيهامي. وتندرج أبحاثه، من قبيل «كيف انسلخت عن يهوديتي»، «كيف ابتكر شعب إسرائيل» و«كيف ابتكرت أرض إسرائيل.. من الأرض المقدسة إلى الأرض الأم»، والتي أسالت الكثير من الحبر في هذا النطاق. وتحتل فرنسا في المشغول الفكري والتاريخي لشلومو ساند مكانة فكرية وتاريخية مهمة بحكم مرجعية الأنوار وحقوق الإنسان التي تمثلها، وبحكم مكانة اليهود في المجتمع الفرنسي. كما أن المؤرخ عاش بها لسنوات.
ويشير شلومو ساند إلى أنه في فرنسا، وخلال الأربعة عقود الأخيرة، نال موضوع الثقافة والمثقفين أكبر حصة من البحث والنقاش. كما شغل في «كاتالوغات» الناشرين حيزا هاما.. ومثلما داس أساطير وخرافات إسرائيل، سعى المؤلف في هذا الكتاب إلى زحزحة بعض الأساطير المرتبطة بصورة المثقف التي جعلت منها فرنسا مفخرة وطنية. فيما علل البعض هذه الخصوصية بعوامل سوسيولوجية، سياسية، أخلاقية، ذهب البعض الآخر إلى القول إن مرحلة المثقفين الكبار ولت وعوضتها مرحلة الابتسارات الإعلامية. فالتيارات التي بصمت الثقافة الغربية، مثل الرمزية، السريالية، الوجودية أو البنيوية أو التفكيكية، لم تنشأ بفرنسا بل بعاصمتها باريس. هذه التعبيرات الفنية والتيارات الفكرية وغيرها رأت النور في الصحافة والمجلات الباريسية، وفي الكتب التي تطبع بهذه المدينة. وقد انتشرت أصداؤها إلى باقي المدن الفرنسية والأماكن الأخرى من العالم، بعد أن تشكلت في مجال جغرافي محدود. كما أن مفهوم «مثقف» حديث النشأة بحيث يعود شيوعه إلى نهاية القرن التاسع عشر، تحت توقيع سان سيمون وإرنست رينان. وأعطت قضية القبطان ألفرد دريفوس بعدا سياسيا وإيديولوجيا للمفهوم الذي كانت له في البداية دلالة قدحية قبل أن تصبح له حمولة إيجابية. وإن رأى البعض في جان بول سارتر المثقف الفرنسي بامتياز، فإن الثقافة الفرنسية تغذت من الماركسية، من الفكر النقدي وأيضا من الفكر الوضعي الأنجلوساكسوني… لكن أهمية هذا المؤلف لا تكمن في المقاربة التاريخية أو الشخصية للثقافة والمثقف، بل في الحملة النقدية اللاذعة التي شنها شلومو ساند على أعلام التيار المحافظ الجديد، من أمثال آلن فينكلكروت، فيليب فال، إيريك زمور، بيرنار هنري ليفي، ميشال أونفري، ميشال ويلبيك، بيار أندريه تاغييف وغيرهم… فهذه الرموز التي تستحوذ على الخطاب الثقافي وعلى المشهد الإعلامي والأدبي، تسببت في ابتذال الخطاب المعرفي وفي مسخ الحوار والنقاش باختزاله في مواجهات تلفزيونية عقيمة.
تتأتى جاذبية هذا البحث من النظرة التي يلقيها إسرائيلي على مثقفين فرنسيين أغلبهم من أصول يهودية، تقوم كتاباتهم على مديح الأصول والجذور ومعاداة الآخر، وبخاصة العربي ـ الإسلامي.
يشير ساند إلى أن كتابات هؤلاء تزج بنا في مخطط الصراع والمواجهة، مع تركيزها على هوية فرنسية مزعومة، مع العلم أن أغلبهم يتحدر من أصول أجنبية: فينكلكروت بولندي، إيريك زمور جزائري أمازيغي، بيرنار هنري ليفي جزائري إلخ… أين نحن إذن من فكر الاختلاف والتغاير الذي نادى به ميشال فوكو، جاك دريدا وغيرهما؟ يتساءل المؤرخ. هنا يمكن الحديث عن موت ثقافة وانبعاث أخرى، ثقافة هجينة، عنصرية وإسلاموفوبية ومؤدلجة لصالح فكر انتكاصي يعمل على إعادة بناء قيم الماضي المحافظة.
يطلق شلومو ساند على هذه الفئة تسمية الانهياريين، ويشدد على مفارقة أنه في الوقت الذي ينتقد فيه هؤلاء المثقفون الأصولية والراديكالية الإسلامية، فإنهم يطبقون الصمت على التطرف الإسرائيلي وانزياح المجتمع الإسرائيلي نحو قيم دينية أصولية واستئصالية، كل ذلك باسم القداسة والحرمة، يمتنع هؤلاء المثقفون عن انتقاد إسرائيل بل يساندونها كـ«ذرع واق» للعالم الليبرالي في وجه التطرف الإسلامي. ويخلص إلى الإشارة إلى أنه في الوقت الذي نشأ المثقف المعاصر في حمأة المعارك ضد النازية واليهودوفوبيا، فإن أفول مثقف بداية القرن الواحد والعشرين بدأ مع صعود الإسلاموفوبيا التي أصبحت السلعة المفضلة لهؤلاء المثقفين.