مسألة ثقة
الذين فكروا في التوجه هذا الصيف لاكتشاف كنوز المغرب السياحية لا بد أنهم أصيبوا بخيبة أمل، فهذه الكنوز محروسة بمردة حقيقيين يجعلون كل تفكير في ولوجها ضربًا من الخيال.
فقد كنا نعتقد أن الوحدات السياحية والفنادق سوف تخفض أسعارها وتمنح عروضا مغرية للسائح الوطني لكي يكتشف ما تزخر به بلاده من كنوز فإذا بهؤلاء الناس يستغلون الفرصة لمضاعفة أسعارهم، معتقدين أنهم بهذا الجشع سيعوضون ما ضاع منهم خلال أشهر الجائحة العجاف.
وليس السعر المرتفع وحده هو المشكل بل هناك أيضا رداءة الخدمات، والمصيبة هي أنك عندما تنزل من غرفتك، ورأسك مبرقق بلدغات البرغوت، لكي تفطر في الفندق، بمجرد ما تسأل عن طعام حتى يقولون لك «تقاضا»، «كاين لومليط»؟ «لا تقاضا لينا البيض». كاين العصير»؟ «لا تقاضا لينا الليمون». وهذا يحدث في فنادق مصنفة يا حسرة شعارها هو «اللي بغا يفطر يفيق بكري»، وكأن الأمر يتعلق بجائزة وليس بإفطار دفعت ثمنه من جيبك. والسبب هو أن جشع أصحاب هذه الفنادق يدفعهم إلى التجوعيف على حساب الزبائن.
السائح المغربي يبحث عن الجودة والخدمة اللائقة والنظافة، وهذا بالضبط ما يفتقده في جل فنادق المغرب وكان يذهب للبحث عنه في فنادق إسبانيا وتركيا والبرتغال وغيرها من الوجهات السياحية التي أصبح يقصدها المغاربة، قبل أن تقرر الحكومة أن تبقي هذه العملة الصعبة في خزائنها حتى يصنع الله أمرًا كان مفعولا.
وهكذا وطيلة سنوات عوض أن تساهم السياحة في جلب العملة الصعبة أصبحت، بسبب بؤس خدماتها ورداءة عروضها، تتسبب في نزيفها.
إن مشكلتنا الحقيقية هي الغش وقلة المعقول، سواء في السياحة أو في غيرها. نلبس ملابس مزورة ونستمع ونشاهد موسيقى وأفلاما مقرصنة، ونقتات على مواد غذائية مهربة. حتى برامجنا التعليمية والإعلامية العمومية ومشاريعنا السياسية وقوانيننا منقولة حرفيا عن الخارج. وفي الأخير يأتي المندوب السامي للتخطيط لكي يقول لنا بأن المنتوج المحلي لا يستطيع منافسة المنتوج الأجنبي، ولذلك فعلينا دعم هذا المنتوج داخليا. وينسى أن السبب في عدم قدرة المنتوج المحلي على منافسة نظيره الأجنبي، هو أن منتوجنا مغشوش. ويمكن أن تكذب على الزبون مرة واحدة فقط، لكنه بمجرد ما يكتشف غشك «سيقلب» عليك إلى الأبد.
وشخصيا أعتقد أن احتقار المغاربة لعلاماتهم التجارية الوطنية وللمنتوج المحلي وإقبالهم على المنتوج الأجنبي لديه سبب موضوعي وآخر نفسي
السبب الموضوعي هو أن المنتوج الوطني يعاني فعلا من عائق التنافسية على مستوى الجودة والسعر مقارنة بالمنتجات المستوردة. وهنا لا نتحدث فقط عن السياحة والصناعات الغذائية وإنما أيضا عن مواد التنظيف والأثاث المنزلي وقطع الغيار والآلاف من المنتجات التي تغرق السوق الوطنية وتعجز الصناعة المحلية عن منافستها
أصحاب المنتوج المحلي لديهم رغبة مرضية في الربح السريع على حساب الجودة وتنافسية السعر، أما شي حاجة سميتها “الخدمة بعد البيع” فهذا شيء لا يؤمنون بوجوده أصلا، وأعتقد أننا نحتل مؤخرة الترتيب في العالم في غياب هذه الخدمة، وبمجرد ما يبيعك أحدهم شيئا يضربها لك بنكرة إذا اكتشفت أن المنتوج فيه عطب. وهم بهذا السلوك يعتقدون أنهم في قمة الذكاء فيما هم يقترفون فعلا غبيا من الناحية التجارية ويفقدون زبونا إلى الأبد لصالح منتوج أجنبي
أما السبب النفسي فيتعلق بمشكلة عدم الثقة في النفس التي تشكل أكبر إعاقة نفسية يعاني منها المغربي عموما
فالمغربي لديه نقص في الثقة بنفسه، إذ عليه أن يجهد نفسه بالتكلم بلغة أجنبية لكي يثبت نفسه وجديته لمخاطبيه، ويجب أن يستهلك منتوجا أجنبيا رغم أن منتوجه المحلي أحسن، فقط لكي يعطي الانطباع بأنه يتابع الموضة العالمية في الاستهلاك.
وحتى زيت أرغان لم يلتفت المغاربة لمزاياها حتى ذاع صيتها وأصبحت مشهورة ومطلوبة عالميا، وكذلك الشأن بالنسبة للهندية التي كان استهلاكها مقتصرا على الفقراء وسمعتها في الحضيض بسبب عصمها لأكثر من واحد، فأصبح تناولها اليوم موضة فقط لأن برامج ومجلات علمية أجنبية أثبتت قيمتها الغذائية والتجميلية، فأصبحت الهندية ليها الشان تباع بدرهم للحبة بعدما كانت “جوج بريال والموس من عندي”
إذن يجب أن يأتي المغربي بالاعتراف من الخارج لكي ينال الاحترام في الداخل، وهذا ينطبق حتى على الباحثين والأدباء والفنانين الذين يعودون من الخارج إلى المغرب بعدما حققوا الشهرة فيتم الاحتفاء بهم هنا بشكل يتجاوز الحدود، رغم أن لدينا من هم أحسن منهم لكن ذنبهم الوحيد هو أنهم لم يهاجروا ولم يجلبوا الاعتراف من الخارج
وهذا الافتتان بالمنتوج الأجنبي جعل الميزان التجاري الوطني مختلا دائما لصالح الواردات، بحيث وصل عجزه سنة 2019 إلى 122,8 مليار درهم.
علينا أن نكون واضحين، فالحكومات المتعاقبة كانت تعرف أن اقتصاد المغرب لا يمتلك القدرة التنافسية لغزو أسواق البلدان التي وقعوا معها اتفاقيات التبادل الحر ومع ذلك “تلاحو بلا سروال”، والنتيجة هي أننا وصلنا للحد الذي أصبحنا فيه نرى كيف تفلس 8 آلاف مقاولة وطنية في سنة واحدة وكيف أصبحنا نستورد كل شيء من أمريكا وتركيا ومصر وتونس وفرنسا وإسبانيا
المشكل يا سادة لا يوجد في اقتصاديات شركاء المغرب، فلا يمكن أن نلوم شريكا مثل تركيا لأن اقتصاده تنافسي ولديه قدرات شرسة على فرض بضاعته بأسعار تنافسية في الأسواق الخارجية والدفاع عنها. المشكل يوجد في اقتصادنا نحن الذين لا ندعم الماركات المحلية ولا نشجعها على التصدير نحو الخارج كما تصنع تركيا مثلا مع العلامات التي تريد غزو العالم
وثانيا هناك احتقار من طرف المغاربة للمنتوج المحلي على حساب الانبهار بالمنتوج الأجنبي حتى ولو كان رديئا، وذلك راجع بالأساس للتأثير الذي تمارسه الصناعة التلفزيونية التركية من خلال المسلسلات التي تروج لنمط عيش تركي عصري
لذلك فلكي يتصالح المواطن المغربي مع منتوجه الوطني لا يكفي فقط أن ترفع الجمارك من الضرائب على الاستيراد بل يجب على الحكومة أن تتوفر على استراتيجية واضحة وطويلة المدى لترسيخ العلامات المغربية في أذهان المغاربة وربط هذه العلامات بقيم الجودة والتنافسية والإتقان، عوض أن تظل مرتبطة بالغش و”التجعاب” و”الله يجيب الغفلة بين البايع والشاري”.