مراهنات فكرية
من الوسط الشيعي في العراق تتشقق الأرض ويخرج مفكرون متمردون، ويعتبر (القبانجي) من أشهر أولئك، لذا كان من الضروري توعية القارئ بالأبعاد التي يمضي إليها هذا المفكر.
بين الحين والآخر تأتيني رسائل من إخوة أفاضل يعرفوني على شخصيات تؤثر في الناس عن طريق اليوتيوب والحديث المباشر للسامع، لذا سوف أفيد القارئ محاولا إنصاف هؤلاء، ونظرا لأن الأفكار التي يقولون بها مزلزلة فوجب الاطلاع عليها وردها وتفنيدها إن كانت كذلك.
بين أيدينا اليوم القبانجي العراقي ولاحقا سوف أحاول أيضا إطلاع القارئ على بعض المغاربة الشاردين أو الملحدين أو الفارين، ومن أعجبهم من اطلعت على مقولته شاب جريء اسمه (رشيد) من دكالة اعتنق النصرانية فتعجبت؟ وقلت وكان الإنسان أكثر شيء جدلا؛ فبعد أن ودعت أوربا المسيحية يأتي صاحبنا فيعتنقها، أي بدل أن يتقدم خطوة رجع خطوتين.
على كل حال سيكون هذا في موضع آخر، أما اليوم فأتابع الحديث عن ظاهرة القبانجي العراقي، فهو يقول أن القرآن ليس كلام الله، بل تعرض لأربع تحريفات، كل واحدة كفيلة بالضلال المبين.
ويقول عنها إنها أمر طبيعي ومتوقع، فالأول كان في الوحي حين تحول وتحرف، والثاني حين تحول عند النبي إلى وعي ذهني ـ الذي لا يصلي عليه قط ـ ثم التحريف الثالث بتحول القرآن إلى ألفاظ، وأخيرا بالكتابة حيث التشكيل بالضمة والفتحة والتنوين والشدة والسكون (لعل من حسنات الحجاج هو تنقيط كلمات القرآن حتى لا تختلط القراءات).
وهو بهذا ينحو منحى الغزالي القديم أبو حامد، الذي تكلم عن مشاكل اللغة ومستويات الوجود، وكان مبشرا أي الغزالي القديم بنظام البرمجة العصبية اللغوية (LNP) فنحن نعلم أن الحقيقة الموضوعية غير الحقيقة الذهنية؛ بمعنى أن كلاً منا يرى الشمس والقمر والحجر والسماء والشجر، ولكن الصورة المرتسمة في الذهن تختلف من شخص لآخر، فإذا نطق تسرب وتبخر قسم من الرصيد الذهني؛ فإذا كتب لم يبق من الرصيد الذهني أكثر من 37 في المائة ولذا فجماعة البرمجة (اللغوية ـ العصبية) يقولون أن الحضور الشخصي، وقسمات الوجه، ونبرة الصوت، وحركات اليدين، تنقل أفضل من الكتابة والكلام المجردين، وهو بهذا ينفذ إلى مصطلحات القرآن حول اللغة السيميائية (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول). فقد يرحب بك شخص فيقول أهلا وسهلا ولكن رنة الصوت تقول لا أهلا ولا سهلا. كما يقول أهل السينما في المواجهات طاب نهارك يا سيدي وأحدهم يقول لا طاب ولا نعم.
لكننا هنا في ورطة فعلية معه؛ فالقرآن الذي هو حقيقة كونية، هل كان حقيقة خارجية أم أن ألفاظ القرآن تم نقلها مع المعنى إلى قلب الرسول (ص)، وهو ما تكرره المفاهيم التقليدية والدين السائد، أم أن كلماته من القوة والحضور ما تنفتح بطريقة استثنائية من مجاري اللغة على حقائق الوجود الكلية، كما نراه في التفسيرات التي لا تنتهي لآيات الذكر الحكيم، خلاف أي كتاب آخر مما ينفي عنه البشرية.
وهناك أكثر من آية تشير إلى أن الرسول (ص) كان يستعجل في القول حين نزول الوحي، فأوصاه القرآن أن لا يفعل ذلك؟ هناك موضعان على الأقل في القرآن يصبان في هذه الظاهرة في محاولة تثبيت الحفظ، أن لا يهتم بهذا بتاتا لأنه سينقش في قلبه (على قلبك لتكون من المنذرين).
الأولى: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما (طه 114) وفي سورة (القيامة) لا تحرك به لسانك لتعجل به. الوحي يقول له القضية ليست برمجة عصبية وترديد لسان بل أكبر بكثير، ليس فقط حفظ الكلمات، بل جمعها في ترتيب وصبها في كتاب اسمه القرآن، وحين يقرأ على قلب النبي ليس عليه سوى السير في المسلك المرسوم بدقة. وبعد هذا تأتي ميزة إضافية من وضوح المعنى (لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه) (القيامة 16ـ 18).
أذكر أنه جاء في الحديث أن الوحي إذا انتهى وكان يحدث في ضربة صاعقة، يغشى فيها على نبي الرحمة (ص)، وفي أوقات غير مرسومة، كما روت عائشة (ر)؛ فكان يسجى بثوب حتى ينجلي الوحي، بل أحيانا كان يأتيه وهو على ظهر الناقة، كما في سورة الإنعام التي نزلت دفعة واحدة بـ 165 آية، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة، فكان إذا نزل الوحي توقف القوم كأن الطير على رؤوسهم لأن السماء سوف تتكلم الآن؛ فإذا قضي الوحي طبع على قلب النبي (ص) كأنه الختم المحفوظ. فينهض لينطق به كأفضل آلة مسجلة، فكان يتلوه على القوم فيحفظونه في الجنان، كيف لا وهو خطاب السماء إلى الأرض.
أظنها كانت ساعات مباركات من الاتصال بالمطلق، لرجل لم يكن في القريتين عظيم، ولكن هنا كنا على موعد مفصلي من تحول التاريخ، فنحن بنعمته اليوم إخوانا.
السؤال الآن وهو مفرق خطير إذا كان الوعي الذهني للرسول (ص) تشكل رؤى للثقافة المحيطة به فقد تم قتل القرآن أن يكون مستمرا وعالميا، كما يعلن نفسه أنه للناس نذير، وهو أيضا ما ذهب إلي (آركون الجزائري) حين تحدث عن مثلث (اللغة ـ الفكر ـ التاريخ) في كتابه (تاريخية الفكر العربي)، أما إذا كان القرآن ينقل بحيث يفهمه الرسول (ص) على نحو ما حسب بيئته، ولكنه حقيقة منفصلة عنه، بما فيها نظم الجمل أو الكلمات المارة في الأنبوب اللغوي؛ فهذا يحرر القرآن من البشرية تماما، وأنه تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، ليكون نذيرا للعالمين. لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر.
مع هذا فالرجل ـ أي القبانجي ـ أمام طغيان وهج القرآن لا يستطيع إلا أن يعترف ببلاغة خاصة فيه، سماها البلاغة الوجدانية، أو (النغم الإلهي)؟؟ وأتى بشواهد على ذلك من سورة (الروم) وآخر سورة (الواقعة)، وفي الواقع فقناعتي ـ من مدخل سورة الروم ـ أنه أهم من النغم الإلهي بكثير تلك المقامرة على مصير إمبراطورية في معارك الشرق الأوسط الطاحنة، بين فارس وبيزنطة. المقامرة في سورة الروم على هزيمة الإمبراطورية الفارسية أمام هجوم بيزنطة شيء خطير في كل مصير القرآن، حين تمر بضع سنوات ولا يتحقق شيء؟!
غلبت الرم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين . لله الأمر من قبل ومن بعد. (الروم).
ثم تأتي المراهنة الثانية أنه في ظروف انتصار بيزنطة سيفرح المؤمنون يومئذ بنصر الله. ينصر من يشاء وهو العزيزالرحيم. فكيف نفهم نصر المؤمنين المتزامن مع نصر بيزنطة (أهل كتاب) على فارس الوثنية؟
هنا ترتفع عتبة المراهنة والويل للكاذب أو الكاهن الذي يرجم بالغيب؟ كانت وقعة الخندق في العام الخامس من الهجرة متزامنا مع هزيمة الفرس، وهو أمر لم أفهمه إلا من المؤرخ البريطاني توينبي في كتابه (تاريخ البشرية) ومنه فهمت أيضا سرعة انتشار الإسلام في الشرق الأوسط ونهاية دولة فارس وانسحاب بيزنطة إلى جبال طوروس حيث ستتم مطاردتها من القوى الإسلامية بما فيها حصار متكرر للقسطنطينية لؤلؤة الشرق إلى حين سقوطها بيد القوى التركية الصاعدة على أكتاف الباكتاشية. كانت جيوش الفتح لا تقاتل جيوشا بل تكنس أنظمة واهنة محطمة وجيوش عاجزة وحكومات مفلسة.