مدمرو الديمقراطية بأمريكا
حسن أبو طالب
«شبح الحرب الأهلية يطارد الولايات المتحدة»، عنوان مثير لتقرير نشرته «صنداي تايمز» البريطانية، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاقتحام مبنى الكونغرس في السادس من يناير العام الماضي، أثناء جلسة إقرار نتائج الانتخابات الرئاسية، التي فاز فيها الرئيس بايدن، وهُزم فيها الرئيس السابق ترامب.
المقتحمون هم من أنصار الرئيس المهزوم، تأثروا بحملة التشكيك في نزاهة نتائج الانتخابات التي قادها ترامب بنفسه، وحاولوا من خلال اقتحام الكونغرس منع الإعلان الرسمي للنتائج الرسمية، واستخدموا أشكالا عدة من العنف والفوضى.
حادث اقتحام الكونغرس كان غريبا وغير مسبوق، ولكنه فتح نقاشات سياسية وفكرية كثيرة حول مدى نجاعة الديمقراطية الأمريكية، ومدى قدرتها على الاستمرار في ظل تصاعد التيارات الشعبوية والاتجاهات ذات الطابع العنصري، التي تنظر باستعلاء إلى الأمريكيين من أصول عرقية إفريقية ولاتينية وآسيوية وتعتبرهم دخلاء، ويجب بترهم من الحياة الأمريكية، إما بالترحيل إلى خارج البلاد، وإما بالقتل.
الجدل امتد أيضا إلى كيفية معالجة الانقسام الأفقي على صعيد التكوينات العرقية والاجتماعية، والرأسي على صعيد الاتجاهات السياسية، سيما التي تجاوزت الأفكار الحاكمة للحزبين الرئيسيين، الديمقراطي والجمهوري.
قبل نشر تقرير «صنداي تايمز» المُشار إليه، نُشرت دراسات وتقارير رصينة في مجلتي «فورين أفيرز» و«بوليسي»، الأمريكيتين منذ عام 2016 حين فاز الرئيس ترامب، حللت أصول التيار الشعبوي في المجتمع الأمريكي منذ الخمسينات في القرن الماضي، وأرجعتها إلى حركات اجتماعية وجدت في سياسات الحزبين الكبيرين تجاهلا للمطالب الشعبية، وتكريسا للفوارق الاجتماعية الهائلة بين الأغنياء والفقراء، ومن ثم سعت تلك التيارات الشعبوية إلى سد هذه الثغرة من خلال المطالبة بتغييرات كبرى في الحياة السياسية، وإفساح المجال أمام نُخب جديدة تراعى الفئات المهمشة.
ووفقا لهذه الدراسات، فإن فوز الرئيس ترامب 2016 كان بمثابة إحياء لتلك المطالب، خاصة أنه جاء من خارج المؤسسة السياسية الحاكمة، وكانت له مواقف حادة، وما زالت ضد الطبقة السياسية التقليدية ذات الامتيازات الكبرى.
فى تقرير «صنداي تايمز» المُشار إليه آراء لباربرا والتر، خبيرة الأمن الدولي في جامعة كاليفورنيا بسان دييغو، تحلل فيها الاتجاهات الاجتماعية الصاعدة في المجتمع الأمريكي والداعية إلى العنف والفوضى، والتي تتأثر بالحوارات الدائرة في وسائل التواصل الاجتماعي، وبعضها، حسب باربرا والتر، لا يرى غضاضة في أن تحدث بعض الاغتيالات وبعض الإعدامات، وهي الآراء التي تعتبرها «والتر» خطيرة، وتعكس عدم إدراك هؤلاء لمعنى الحرب الأهلية وأهوالها، مشيرة إلى أن أي حرب أهلية جديدة، سوف تختلف عن تلك التي أقامت الوحدة الأمريكية 1861 إلى 1865، بين الولايات الشمالية والجنوبية، لأنها – أي الحرب الجديدة- ستكون بلا قيادات، وسوف تسودها الفوضى وتحركات الجماعات الصغيرة.
«والتر» أشارت أيضا إلى أن الديمقراطيات الناشئة، يمكن أن تتعرض للحرب الأهلية بمسرعات من التواصل الاجتماعي، لكن الجديد هنا هو أن يحدث ذلك في بلد له تجربة ديمقراطية ذات جذور.
وهناك محللون آخرون يشددون على أن الوضع في أمريكا قد لا يصمد كثيرا، أمام التحديات والضغوط والقوى المدمرة للديمقراطية، وينصحون بحوار مجتمعي حقيقي.
مثل هذه التحذيرات تثير الغرابة بالنسبة لمجتمع يمارس الحرية بأبعادها المختلفة، ثم يطالب البعض بحوار نخبوي ومجتمعي، منعا للانفجار المحتمل. وهنا تبدو الآليات المتعارَف عليها كالانتخابات وحرية الصحافة غير ذات بال بالنسبة إلى الشعبويين والفوضويين.
من الأمور المثيرة في تحليل باربرا والتر، هو الدور الذي تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل اتجاهات سياسية وفكرية، بعيدة تماما عن تدخلات من يمكن وصفهم بالخبراء والمتخصصين، وبما يساعد على ظهور وانتشار اتجاهات شعبوية، تتصادم مع نظام الحكم والتقاليد السياسية والقانونية المعمول بها، وتميل إلى التطرف والآراء الفوضوية وترغب في إحداث تغيير كبير بأي طريقة.
مثل هذا التأثير العائد لوسائل التواصل الاجتماعي لم يعد يفرق بين مجتمعات تمارس الديمقراطية منذ زمن طويل، مثل الولايات المتحدة نفسها، أو على أعتاب التحول الديمقراطي كما هو الحال في عدد من بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، أو لا تعرف التقاليد الديمقراطية بالمرة.
وتزخر الصحف الأمريكية بالتحليلات الناقدة لأداء الرئيس بادين، خاصة في مواجهة تفشي فيروس «كوفيد- 19» ومتحوراته، ولعدم وضوح الرؤية في ما يتعلق بالتهديد الصيني للدور الريادي للولايات المتحدة، والبعض منها يتحدث عن ضرورة إجراء تغييرات في البيت الأبيض نفسه، من قبيل استقالة كاميلا هاريس، أو تعيينها في المحكمة الدستورية، وإتاحة الفرصة للرئيس بايدن لتعيين نائب رئيس أكثر خبرة في المجال السياسي، على أن يقدم الرئيس بايدن استقالته لأسباب صحية، وتسليم السلطة إلى هذا النائب الجديد.
إثارة مثل هذه السيناريوهات لتسليم السلطة إلى شخص آخر غير منتخب، تعكس بدورها حالة من الاضطراب الكامن في أعلى مستويات الحكم، وهذا بدوره يدعم اتجاهات عدم اليقين لدى المواطنين، كما يدعم أيضا ولو بطريق غير مباشر المقولات والانتقادات والإشارات التي يتحرك على أساسها الرئيس السابق ترامب، كتمهيد للترشح في الانتخابات المقبلة في 2024، متسلحا بتأييد شريحة كبيرة من الأمريكيين البيض، وإيمانهم بأن ترامب هو الشخص الوحيد القادر على تغيير أمريكا جذريا.
نافذة:
هناك محللون آخرون يشددون على أن الوضع في أمريكا قد لا يصمد كثيرا أمام التحديات والضغوط والقوى المدمرة للديمقراطية وينصحون بحوار مجتمعي حقيقي