أهم ما يميز روايات الروائي المغربي، يوسف فاضل، عوالمُها وطبيعة شخوصها التي تنتمي إلى محيط المنسيين والمُهمّشين بامتياز. ويمكن القول كذلك إن عوالم فاضل تشبه عوالم نجيب محفوظ الذي بادر إلى نمذجة ظلال الواقع وهوامشه، من خلال منجزه السّردي الفريد، فمَن من قرّاء محفوظ لا يتذكّر، مثلاً، شخصية زيطة، صانع العاهات، في رواية «زقاق المدق»، وغيرها من الشّخصيات الفريدة والعجيبة.
وإذا كان محفوظ قد سبر أغوار عوالم هذه الشّخوص لأنه عاش في مدينةٍ صارخة بالتناقضات مثل القاهرة، فكذلك فعَل يوسف فاضل، في مدينةٍ لا تقلّ عن قاهرة محفوظ تناقضاتٍ، هي الدار البيضاء. ومخلصاً لهذه الأجواء، أبدع رواياته المتعدّدة، ومنها «مثل ملاك في الظلام» (دار الآداب، بيروت، 2018). تمتاز هذه الرواية، قبل غرابة تصرّفات شخصياتها وغرابة التفاصيل التي ترافق تحرّكاتها، بغرابة الفكرة التي طالما ميّزت روايات فاضل. وفي كلّ ما قرأت ليوسف فاضل، وجدت أنه يقتنص فكرة، سواء من أحداث التاريخ أو من الواقع المعيش، ويبني عليها عوالمه العجيبة. وأتذكر هنا، مثلاً، «مترو محال»، التي تتمحور «فكرة» أحداثها حول رجل قصير، لا يتجاوز طوله المتر، لكنه يكافح ليتساوى مع الآخرين، مُتحدّياً قدَره بعزيمةٍ لا تُفتّ. يضع بطل هذه الرّواية نظّارة سوداء طوال الوقت، وكأنه بذلك يُخفي قِصَره. وقد يرفع صوته ليشتّت الأنظار، للغاية ذاتها. أما في رواية «حشيش» التي يمكن قراءتها في سياق الدّراسات ما بعد الكولونيالية، حيث يقتنص فاضل فكرته من استغلال إسبان حاجات فقراء مغاربة، ونجد الفتاة التي غرّر بها إسبان تحت إغراء حلم العبور إلى العالم الآخر، ثم رميت ميتةً على الشاطئ، بعد أن قضوا حاجاتهم الحيوانية منها.
بدءاً بروايته الخنازير (1983) و«أغمات» (1990) التي تحمل اسم القرية التي أُسر فيها المعتمد بن عباد ودُفن، وحيث ضريحه فيها، ثم «سلستينا»، التي بذر فيها فاضل لغته الخاصة التي أخذت تتطوّر وتنمو وتتمركز، لتتيح للكاتب، في ما بعد، أن تصير له «لغته» التي تميزه، والتي تتجلى بصورة أوضح في كل رواية جديدة يُصدرها. ثم أبدع «ملك اليهود» (1993) التي رسّخت اسم فاضل في سماء الرواية المغربية. توالت، بعد ذلك، أعمال يوسف فاضل الرّوائية (يصدر رواية كل عام وأحياناً كل عامين)، يُميّزها تعدّدُ عوالمها وسعة حجمها، ما يدلّ على أن مؤلفها يخصّص جلّ وقته للتفكير والبحث عن عوالم رواياته ونحت تفاصيلها حتى ينجزها، في طبعاتها المتعدّدة، بحرَفيةٍ ومهارةٍ نادرتيْن. وقد انتبهت «دار الآداب» البيروتية المعروفة إلى أهمية روايات يوسف فاضل، فأصدرت بعضها، منها «طائر أزرق نادر يحلّق معي» التي بلغت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) عام 2014.
تمتاز تجربة يوسف فاضل، كذلك، بالإصرار، إنه يبتعد لكي يقترب. وبمعنى ما، عزلتُه عزلةُ بحثٍ وتقصٍّ. وما ذلك التوسع في عوالمه إلا دلالة على أنه يُلزم نفسه بأن يكون محيطاً بالفضاء الزّمني لشخصياته، فهو لا يكتب عن السّجناء، مثلاً، إلا بعد أن يقرأ تفاصيل «واقعية» كثيرة عن المرحلة التي ستدور فيها أحداث منجَزه السردي. لا يغفل أيّ تفصيل، حين يبدأ في إعمال خياله لبناء أجواء رواياته. بهذا، يجد القارئ نفسه وقد عاش في مكان وقائع الرّواية وزمانها ويتماهى مع تفاصيلها، المنحوتة بعناية روائي يهتمّ بكل بعناية روائي يهتمّ بكل صغيرة وكبيرة لبناء عوالمه ولغته.
سبق ليوسف فاضل أن شارك في إصدار منشورات نجمة ومسرح شمس، مع الشاعر العُماني عبد الله الريامي والمخرج المغربي عبد العاطي المباركي، ولكنه ما لبث أن تخلى عن تلك المشاريع، لصالح الانقطاع إلى نسج عوالمه الروائية وبناء استثماراته المكتوبة، ليشكل بذلك كمّاً روائياً يميزه لغةً وعوالم، ويضعنا على الصعيد العربي أمام روائي محترف، له طريقته الخاصة في صياغة عوالمه وتقديمها.
محمود عبد الشكور.. رحلة عذاب وحكاية حب
أكثر ما يلفت النظر في رواية «طائر أزرق نادر يحلّق معي» للروائي المغربي يوسف فاضل، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر، أنّها تعرض موضوعها من عدة زوايا، وتقدّم شكلها أيضا بمستويات عدة، هنا عمل طموح للغاية… يترك مع ذلك في عقل وقلب قارئه علامات محفورة، وأحلاما موفورة، تريد التحليق والطيران مثل بطله. يمكنك أن تقرأ هذه الرواية الصادرة عن دار الآداب في 326 صفحة باعتبارها تسجيلا لمعاناة المعتقلين السياسيين في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، أولئك الذين اختفوا فلم يعرف أحد طريقهم، حبسوا بدون وثائق أو سجلات أو دفاتر، عذبوا وقتلوا ودفنوا دون أن يعرف عنهم أحد شيئا، بعضهم خرج بعفو استثنائي، عادوا إلى العالم كبقايا بشر. لكن يمكن أن تقرأ الرواية باعتبارها حكاية حب فتاة اسمها زينة تعمل في أحد البارات، ورحلتها للعثور على زوجها الطيار عزيز، الذي اعتقل واختفى بعد مشاركته في محاولة اغتيال الملك الشهيرة عام 1972، لم تتزوج، لم تترك خيطا يوصل إليه إلا سارت معه، حب وفراق ثم لقاء بعد 28 عاما من الغياب، وهل يتحدى الألم إلّا الحب والأمل؟
من زاوية ما (لا زلنا نتحدث عن موضوع الرواية) فإنها رواية عن القهر السياسي الذي جعل عزيز بلا أدنى حقوق محبوسا في زنزانة كانت مطبخا في ثكنة معزولة في صحراء الجنوب. إنّه السجين الوحيد الباقي الذي يتخلصون منه فيدفنونه في باطن الأرض بالتراب والجير الحي، ولكنه ينجو بمعجزة. إنه ذلك الإنسان الذي فقد الزمان والمكان والذي يكلم الطيور ويعد الأرقام وتعضه الفئران. ولكن من زاوية أخرى فإن الضحايا خارج الثكنة ليسوا أقل عددا، إنهم ضحايا الفقر والبؤس والظرف الاجتماعي الذي جعل ختيمة تهرب بأختها الصغيرة زينة من أب تزوج على أمهما، تحترف الدعارة، وتحلم لأختها بعريس ينقذها من الإهانة والحاجة، يظهر عزيز في الحانة، يضرب القواد الشرس، لا تستعيد ختيمة استقلالها إلّا عندما ترث صاحبة الحانة الفرنسية، تتحمل مرضها فتفوز بالمكان، تعمل ختيمة وزينة في البار، تبدأ الرواية عندما يحضر رجل غامض حاملا معه غلاف علبة سجائر، عليه عبارات استغاثة فيها رائحة عزيز المفقود منذ 20 عاما، فتكرر زينة رحلة البحث العبثية من جديد.
زوايا الرؤية سياسية واجتماعية واقتصادية معا، الفقر في كل مكان: في الخيام حول الثكنة، في الطريق إلى الجنوب، في ظروف العمال الذين يشقّون طريقا إلى العاصمة، مناخ اجتماعي شديدة القسوة… أمّا إذا انتقلنا إلى الشكل، فإنّ يوسف فاضل يعمل على أكثر من مستوى وأكثر من زاوية، يمكن أن تقول إنّها رواية تدور أحداثها في 24 ساعة تقريبا، منذ خروج زينة، إثر تسلمها ورقة الرجل الغامض، من بار اللقلق في آزرو، وصولا إلى ثكنة الكلاوي، ثم عودتها حاملة طفلة حديثة الولادة، ولكن هذه الرحلة تنفتح في الواقع على مدى زمني شاسع يستعيد ماضيا يقترب من 28 عاما وأكثر…
لم يكتف فاضل فقط بالمزج بين حاضر مكثف ومختزل في يوم واحد، يقودنا إلى ماضٍ يقدّر بالسنوات، ولكنه انطلق في لعبة تعدد الأصوات إلى أقصى آفاقها، مازجا بين واقع خشن تأكل فيه الفئران جثث البشر، وخيال محلّق وخصب يتكلم فيه أحد الطيور مع السجين ويبادله الحوار…
يوسف فاضل… مقاربات نقدية
تتناول الكاتبة المغربية زهور كرام المسار الروائي ليوسف فاضل بأنّه مسار عمل بشكل عام على تحرير السياسي من سلطة التأريخي بقولها: «تعدّ روايات الكاتب المغربي يوسف فاضل من الأعمال التي انتصرت لعملية تحرير السياسي من سلطة التقييد التأريخي، من خلال تحويل المغرب السياسي إلى سيرة تخييلية، بدأت مع نصوصه الأولى مثل «الخنازير» (1983)، و«ملك اليهود» (1996)، و«حشيش» (2000) وغيرها، حيث التركيز على قضايا اجتماعية، من خلال المهمشين، والمنبوذين والمسكوت عنهم في العلاقات الاجتماعية، وتحققت الرؤية الروائية مع العملين الروائيين الأخيرين: «قط أبيض جميل يسير معي» (2011)، الذي يحكي قصة المهرج «بلوط» الذي انتقل من ساحة جامع الفنا بمراكش، ليصبح مهرج الحاكم داخل القصر، ويتكفل بإضحاكه، وعبره تعري الرواية عالم القصر وأسراره، والحاكم وجبروته والحاشية ودسائسها، ثم رواية «طائر أزرق نادر يحلق معي» (2013) التي وصلت إلى اللائحة القصيرة لبوكر 2014، والتي تطور التخييل السير- سياسي في منطقة أكثر التباسا في تاريخ المغرب، والتي تعرف بسنوات الجمر والرصاص، والاعتقالات السياسية. بعيدا عن الوقوف عند تحليل الروايات سرديا، يمكن إضاءة العناصر التي أنتجت الرؤية الروائية لدى الكاتب، وحققت من خلالها مشروعا روائيا بطابع اجتماعي-سياسي، يعبر عن وضعية مجتمع، وشكل تجاوزه/إدراكه لهذا الوضع.
تتحقق الرؤية الروائية في أعمال الكاتب يوسف فاضل من خلال العناصر التالية:1- المصالحة الإبداعية- السياسية: ونعني بها قدرة الرواية على تشخيص السياسي، وتحويله من الذات الفاعلة سياسيا، بموجب سلطة التحكم، إلى موضوع منظور إليه من قبل شخصيات أكثر تهميشا، وعبر لغة تعتمد العري والسخرية. يُدخل التخييل مراحل تاريخية مهمة من تاريخ المغرب السياسي (السبعينيات والثمانينيات)، إلى التخييل الروائي، ويحوَلها إلى حكاية تنفتح على التأويل المتعدد، وتُغادر سياج السياسة، وفضاء القصر، وتنزاح عن قيد التأريخ، وذلك، باعتماد إمكانيات الإيحاء المفتوح على التأويل والقراءة». أمّا الكاتب والروائي محمد عز الدين التازي فيقدم قراءة رواية «طائر أزرق نادر يحلّق معي» الفائزة بجائزة المغرب للكتاب: «تأتي رواية يوسف فاضل «طائر أزرق نادر يحلق معي» بعد مجموعة من الأعمال الروائية التي عبر الكاتب من خلالها عن خبرة عالية في بناء العوالم وتنظيم السرد والتنويع في المحكيات والشخصيات والفضاءات.
وبدءا من روايته الأولى «الخنازير» التي دشنت مشروعه الروائي، إلى روايته ما قبل الأخيرة: «قط جميل أبيض يسير معي»، يكون هذا الروائي المتميز قد حقق تراكما نوعيا وانتظاما في الكتابة والنشر، وحضورا في المشهد الروائي المغربي والعربي.
روايته «طائر نادر أزرق يحلق معي» تبدو وكأنها تندرج ضمن استراتيجية لكتابة، خطط الكاتب من خلالها لكتابة تتناسل من بعضها لتشكل، ربما، ثلاثية أو خماسية، وحيث تتجمهر النصوص الروائية مقتربة من بعضها في تجانس يلم شتات المسرودات والمحكيات، وهو تجانس على مستوى طريقة الاشتغال على الشخصيات والتفاصيل، والاقتراب من المغامرة الروائية في وجه من أوجهها ومقترب من مقترباتها. إن ما يدفع إلى هذا الظن هو العنوان الذي اختاره الروائي يوسف فاضل لروايتيه الأخيرتين، فبعد «قط أبيض جميل يسير معي»، جاءت «طائر أزرق نادر يحلق معي»، فما الذي، يا ترى، يخطط له عقل وخيال الروائي، لينسج على نفس المنوال عنوان رواية أو روايات أخرى؟
… فإن رواية «طائر أزرق نادر يحلق معي»، ليوسف فاضل، تحفل بعالم روائي متعدد الأبعاد متشابك الأوضاع السردية، متعدد الشخصيات والفضاءات، وهو عالم ينبني على كثير من الإيحاءات التي تجعل القراءة قريبة من تَشَكُّلِ الخطاب الروائي وطرائق بنائه، ومن المحكي وتنويعاته والشخصيات ووظائفها النصية، ومن المعنى ودلالات الأحداث في الرواية.
إن جملة من طرائق الاشتغال على الكتابة الروائية هي التي جعلت من «طائر أزرق نادر يحلق معي» رواية حداثية تنفتح على التجريب بمعناه الذي يجعل من كتابة الرواية صنعة ومغامرة في اتجاه كتابة الواقع، روائيا، وبما يجعل منه تخييلا للواقع. لكنه، مع ذلك، تجريب يسعى إلى القبض على تَجَلٍّ من تَجليات الواقع، ويجعل من الكتابة الروائية بعدا اجتماعيا يشهد على مجتمع في طور التحول، كما يقدم صورة من صور المجتمع، أو وجها من أوجهه، وهو في مرحلة التغير. وبتداخل كبير مع كل ذلك، فإن ما يجعل من الرواية رواية حداثية هو اقتحامها لمغامرة بناء الأشكال، واشتغالها على الأبعاد الجمالية، وكل ما يقوم على تشكيل العوالم واللغة والتخييل».
عبد الواحد ابن ياسر.. المسرح ووعود الحرية
صدر، أخيرا، عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة (المسرح ووعود الحرية/ شذرات في حفظ الذاكرة المسرحية). على سبيل التقديم يطرح الكتاب تساؤلا مركزيا: بأي معنى يمكن الحديث عن الذاكرة في المسرح؟ عن أيّ «طابق» من طوابقها بتعبير أحد منظري المسرح المعاصرين؟ فالذاكرة المسرحية هي بمثابة هندسة ينتظم فيها البناء وفق خطاطة من ثلاثة طوابق هي: ذاكرة الأنا، وذاكرة المسرح وذاكرة الأصول. الأول منها يعني سيرة معيشة، والثاني يتصل بماضٍ متخيل والثالث يعود إلى الأصول المستعادة. عندما نريد أن ندوّن هذه الذاكرة، هل نعتمد ذاكرة المخرج، أم المؤلف الدرامي، أم ذاكرة الممثل؟ إنّها أسئلة منهجية وفلسفية قلّما وضعها الذين اهتموا بالموضوع عندنا –وهم قلة قليلة- على أنفسهم قبل الخوض العفوي والعشوائي أحيانا، في عملية التدوين والتأليف على السواء.