شوف تشوف

الرأي

محاكمة الحيوانات

بقلم: خالص جلبي 

 

في العصور الوسطى تمت محاكمة الحيوانات في طقوس من المرافعة والقضاء والشهود والأدلة، لخنازير وبغال وحمير وجرذان وحشرات. فهل كان هذا مؤشرا لاحترام البشر الروح المودعة فيهم، أم هي فلسفة العصر؟  

في عام 1494م دخل خنزير شارد إلى بيت جيهان لينفانت وفيه طفل رضيع؛ فنهش وجه الغلام وعنقه؛ فتم إلقاء القبض على المجرم وسيق إلى القضاء، وهناك تم إيداع الخنزير المعتدي في دير، ثم نطق القاضي الحكم على الشكل التالي: «نحن وبامتعاض وهلع شديدين أمام ما حدث باغين العدالة، نحكم بشنق الخنزير خنقا حتى الموت».  

هذه المحاكمة خلدها الرسام إدوارد إيفانس في لوحة، ناقلا تقرير المحكمة التي كانت تحضر الشهود للإدلاء بشهاداتهم، بما يتطلبه القانون من الحق والعدل، ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.

قد يبدو لنا الأمر مضحكا شيئا ما هذه الأيام، ولكنها فلسفة العصر، هذا ما قاله الفيلسوف «جوستين سميث» من جامعة ديديروت ـ باريس إن هذا ما كان يتم في أوروبا ولمدة قرون، بين القرن التاسع والسابع عشر، تم هذا في كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وسويسرا؛ فكانت الحيوانات تقدم إلى المحاكم وبمراسم عادلة. 

والسؤال من الحادثة أعلاه، هل كانت المحاكمات تقتصر على الخنازير فقط، أو أصناف محددة من البهائم؟ والجواب لا؛ فقد تمت محاكمة الخيل والبغال والحمير والقمل والضفادع والكلاب والعجول، بل والجراد. وكانت التهم تتراوح بين القتل واللعن «التجديف» وإفساد المحاصيل.  

كان المدافعون يعينون، ويطلب الشهود للحضور والإدلاء، بل أحيانا كان يجري الاستنطاق لنفس بهيمة الأنعام، وإذا ثبتت الجريمة تم تطبيق الحكم، وكان في الغالب حكم الإعدام، فكانت الحيوانات يقطع رأسها، أو تشنق، أو تحرق، أو تدفن على قيد الحياة، كما حصل في قصة بغل حرون.  

من هذه القصص يروى أنه في عام 1474 م تمت محاكمة ديك في «بازل» بسويسرا، بتهمة بشعة ضد الطبيعة، حينما باض بيضة والديكة لا يفعلون. تم تنفيذ الحكم فيه أن يحرق حيا مشويا، «هل أكله أحد لاحقا؟». 

وفي عام 1750م قدمت أنثى الحمار «أتان» إلى المحكمة بتهمة الفاحشة من رجل قام بها، وأدانت المحكمة الأتان والرجل بتهمة عمل سدوم وعمورية «قوم لوط»، أما الحمارة فأطلق سراحها بشهادة قس زكاها لدى المحكمة، أنه يعرفها منذ أربع سنوات، ويشهد لها بالعفاف وطهارة الذيل، وأنها لم تمارس الفاحشة قط، أما الزاني فكان نصيبه الموت.  

كذلك اشتهرت محاكمة الجرذان في «أوتون Autun»، عندما طُلِبَ رهط من الجرذان المفسدين في الأرض للمثول أمام القضاء، لأنهم أفسدوا الزرع والضرع، وطالبهم القضاء بالحضور عام 1522م، فقام محامي الدفاع بالاعتذار عن حضورهم، لبعد المسافة وخطر الطريق من الأعداء القطط. 

وفي عام 1587م تمت مطالبة القاضي ضد الديدان بأن لا يسرع في حكمه، ذلك أن النباتات والفواكه ليست فقط للإنسان، بل لدواب الأرض أيضا، كي تبقى على قيد الحياة. وقام مدافع آخر يزعم فيها قصر حياة موكليه وقصور أهليتهم، فلا بد من الرحمة بهم.  

في عام 1597 وفي مدينة «شيلدا» تمت إدانة بغل وسلطعون، وحكم عليهما بالإعدام، فأما السرطان فأغرق حيا في الماء، وأما البغل المسكين فدفن على قيد الحياة، وهو ينهق: «ارحموني».  

في الواقع هناك في الهند فلسفة كاملة لعدم الإضرار بالبهائم، وفسح الطريق للبقر، وتقديم الحليب للجرذان والفئران، وترك السعادين يمرحون ويعبثون بدون مضايقة، بل إن أحد الآلهة ارتسم في صورة قرد.  

ويعلق الفيلسوف «جوستين سميث» أن كل هذا تم إنشاؤه، من أجل وضع النظام القضائي العادل، ذلك أن القانون الوضعي أخذ في الحساب معاقبة العاقلين فقط، ولكن القوانين اختلفت مع القرون، فكانت قديما خليطا من العهد القديم «العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص»، والطقوس والعقائد القديمة من الوصايا العشر مع مزيج من الفلسفة، وفي حال وقوع ظلم من حيوان على حيوان أو على الإنسان؛ فوجب إقامة العدل من أجل استرداد التوازن الكوني، فالكون يقوم على العدل.  

ربما يذكرنا هذا ما جاء في سورة «التكوير» عن الوحوش التي تحشر، «وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت»، وذكر بعض المفسرين حديثا يقول ما معناه إن ميزان العدل يقوم حتى إن الله ليقتص من الشاة «أو المعزة» القرناء، التي ضربت أختها بدون قرون. 

ولأن سورة «النمل» تشير إلى رجاحة عقل النملة، التي نصحت قومها بالهرب من زحف جنود سليمان، فيضحك الحكيم. كما أننا نرى في سورة الأنعام (الآية: 38)، أنه ما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه، إلا أمم مثلكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون. فهل هو تبشير بعالم مواز كامل لعالمنا الحالي؟ لا أحد عنده الجواب.  

كانت هذه هي فلسفة العصر، قبل أن يمنح الفيلسوف الفرنسي «ريني ديكارت» مع فكر التنوير الروح للإنسان، ويعتبر الحيوانات آلات بدون روح ناطقة، ولم يعد يتهم أو يحاكم حيوان، كما لم يحاكم ويدان إنسان قتل قطة أو كلبا أو عذبهما.  

وهنا يقف الفيلسوف «جوستين سميث» ويقول: هل كان هذا من مصلحة البهائم؟ والجواب قطعا لا.. حينما ننزع عنهم الروح، وهو ما شجع نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم على رد الاعتبار لهم، بل واعتبار أن من يخسر روحه، ينحط إلى أقل من البهيمة «إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا». كما جرت التعليمات على حسن الذبح بدون ألم للضحية، وأن بغيا من بني إسرائيل غفر لها بأن سقت كلبا الماء، وأن امرأة دخلت النار بسبب تجويعها لقطة، فلم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض.  

بقي أن نشير إلى أنه في تاريخنا يروى أن الحاكم بأمر الله الفاطمي انزعج من نباح الكلاب ليلة؛ فأمر بتطهير القاهرة منهم؛ فهجم جنود السلطان على كل كلب يلهث؛ فكانت مذبحة عارمة ذهب ضحيتها 30 ألفا من شعب الكلاب، ونام الحاكم بأمر الله بدون أي إزعاج. 

نافذة: 

في حال وقوع ظلم من حيوان على حيوان أو على الإنسان فوجب إقامة العدل من أجل استرداد التوازن الكوني فالكون يقوم على العدل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى