إعداد: مونية الدلحي
هل تلاحظ أنك إنسان يعاني من العزلة والعدوانية والنشاط الزائد، إذا كانت فيك كل هذه الأعراض فلربما قد تكون ضحية لما يسمى “متلازمة الهجر” دون أن تدري ذلك. هي متلازمة أو معاناة تبدأ في الطفولة وتبقى توابعها حتى بعد البلوغ وسن الرشد، إذن ما متلازمة الهجر وكيف يمكن التعامل معها؟
بحسب المختص دانيال دوفور، الطبيب ومسير دورات في التنمية الشخصية، يعتبر الهجر أحد أكثر أسباب الانزعاج والمشقة التي قد يعاني منها الشخص شيوعا. وفي أصل هذه المعاناة، التي يسميها أيضا «التخلي»، هناك دائما حالة معيشية سيئة أثناء حياة الرضيع أو الطفل، وهو ليس بالضرورة هجرا فعليا أو هجرا حقيقيا، لكنه ربما قد يكون أحد الأسباب التي سنذكرها، وهي إما غياب الأب مثلا، أو ربما هي أم غارقة في القلق وتعاني من مشاكل خاصة بها تجعلها بعيدة عن طفلها، أو ولادة أخ أصغر، الشيء الذي قد يجعل الطفل يعاني من هذا الشعور، أو انفصال الوالدين، أو وفاة أحد الأجداد الذي كانت له علاقة وطيدة بالطفل.
تقليل الصدمة
إذا كانت هذه الأحداث جميعها أو بعضها قد تمر بسلام دون أن تسبب أية عواقب وخيمة للبعض، فإنها قد تكون مدمرة ومؤلمة للبعض الآخر، بحيث إننا لسنا جميعا متساوين في مواجهة الألم، وهنا يطرح سؤال مهم جدا، وهو لماذا لسنا متساوين في مواجهة الألم والأحداث المؤلمة؟
تشرح المحللة النفسية كاثرين أوديبرت أننا، وبلا شك، عانينا جميعا، في حياتنا، من الانفصال، وأدركنا جميعا، في كثير من الأحيان وفي وقت مبكر جدا، أن الأم والأب، أي الوالدين، لن يكونا دائما تحت تصرفنا وأمامنا في كل وقت نحتاج إليهما فيه، وهما ليسا دائما مستعدين لتلبية جميع رغباتنا..، لكننا، بالتأكيد، لم نختبر هذه الوحدة الجديدة بالطريقة نفسها. وقد يكون السبب ربما هو أن بعض الأطفال كانوا محظوظين بحيث أن من حولهم، (الوالدان مثلا أو الأجداد) انتبهوا إلى مخاوفهم وأخذوها بعين الاعتبار، وحاولوا التخفيف من وطأتها، أو قد يتعلق الأمر بأسباب تعليمية أو أخلاقية، أو ربما لم يستطيعوا الوقوف مع أبنائهم ومساعدتهم على التغلب على الأمر، فقط لضيق الوقت أو لعدم القدرة على الفهم الصحيح، أو ببساطة لأنهم لم يستطيعوا تقدير مخاوف أبنائهم. ومع ذلك لا يمكننا اعتبار الآباء مخطئين في حق أبنائهم لأنهم، وبكل بساطة، لم يعلموا أبناءهم أن يفترقوا بثقة وصفاء، لا شك لأنهم أنفسهم لم يجربوها جيدا من جانبهم.
خوف من رفض مرة أخرى
أحيانا يسارع الطفل، ضحية الموقف، إلى نسيان الحادثة المؤلمة والتقليل منها أو محاولة التعايش مع الحدث، فما الذي يمكن أن يكون طبيعيا أكثر من ولادة أخ صغير جديد، وأروع من حب الأبوين لبعضهما البعض؟ بحيث إن هذه الأحداث السعيدة التي لربما كانت سببا في الشعور السلبي، ذلك الشعور السيئ الذي سيطر على الطفل عند ولادة أخيه مثلا، ويتلاشى مع الوقت، فلطالما لا يوجد منطق في تجربة أو الشعور بهذه المشاعر، كل ما يبقى هو إنكار حق الفرد بالشعور بهذه المشاعر السلبية، وباستثناء ذلك، حتى لو تم خنقها، تظل العاطفة حاضرة للغاية. فظاهريا، يقودنا التفكير وكذلك التربية إلى الاعتقاد بأن كل ما حدث هو أمر من الماضي، ويجب نسيانه..، لكن يظل ذلك الشعور يغلي في الداخل، بحسب المختص لأن المنطق يخلص الشعور السلبي الذي يتعلق بالتخلي، وأنه ربما تم التخلي عن ذلك الشخص، فإنه يشعر بشكل لاإرادي بأنه لا يستحق أن يكون شخصا محبوبا من قبل الآخرين، وبالتالي فإن هذا الاعتقاد يكمن وراء كل تلك العلاقات الاجتماعية والعاطفية، وبالتالي، سيتأرجح الشخص بين فرط التواصل والعدوانية المفرطة، اعتمادا على ما إذا كان يشعر بالحاجة العميقة إلى أن يكون محبوبا أو ما إذا كان يرغب في إثارة رفض الآخر، مقتنعا بأنه سيتعين عليه حتما أن يعاني منه يوما ما، ويبقى ضمن حلقة مفرغة تقوده إلى سلوكيات متناقضة..، مثل شخص مثلا يبذل قصارى جهده ليتم تقديره من قبل جميع زملائه في العمل، لكنه يضحي بخصوصياته. أو مثل شابة في العشرينات من عمرها، دائما ما تعارض والديها، ولكن ما تفعله لا يتعدى أن يكون رغبة منها في أن يحباها لا غير..، أو مثل مراهق في الثالثة عشرة من عمره، فتى متحفظ يفعل كل شيء حتى لا يزعج عائلته أو يؤذيها وينسى نفسه.
عدم القدرة على العيش كزوجين
هناك مجال واحد حيث يكون الجرح أكثر وضوحا، وهو الحب. تشير كاثرين أوديبرت إلى أن العلاقة الزوجية غالبا ما تكون المكان الذي يقوم فيه الزوجان بتسوية حساباتهما مع طفولتهما. ويعرض الزوجان آلام الماضي على بعضهما. بحيث قد تجد زوجا يعيش خوفا كبيرا من أن تتركه زوجته، أو قد تجد شابة أو شابا يريد حقا علاقة زوجية دائمة ومستمرة لكنه يخاف من الالتزام، أو قد تجد شخصا آخر يحاول أن يكون أسوأ شريك يمكن أن يرغبه في الطرف الآخر، ويحب دائما إظهار عكس المواصفات الإيجابية للشريك.
يشرح دانيال دوفور أن هذه المعاناة لها وجهان، من ناحية، الشعور بعدم كونك من يتوقعه الشريك من ناحية أخرى، اليقين بأن الانفصال أمر حتمي. وهذا عندما يحدث، يأتي كدليل إضافي على أن هؤلاء الأشخاص ليسوا محبوبين.
ومن أجل قياس درجة «هجرها» ومحاولة تهدئتها، تقدم أخصائية علم النفس الإكلينيكي، أندريا فيليا، اختبارا ونصيحة يتمثلان في أن يغفر الشخص لنفسه يوما ما لأنه تم التخلي عنه، واليوم يستحق أن يحب.
هناك إغراء كبير لمنع أطفالنا من «الهجر» بأي ثمن، لكن احذر من الوقوع في الفائض المعاكس. فوفقا لكاثرين أوديبرت، الأمر كله يتعلق بالتوازن. يتعلق الأمر حقا بتعليم الطفل الانفصال بطريقة هادئة وواثقة. أثناء محاولة تحريره، قبل أن يكون قادرا على القيام بذلك، أمر خطير، فالإفراط في حمايته سيؤدي إلى مشكلة الهجر نفسها. ومن سن مبكرة، من الجيد أن تمنحه لحظات صغيرة خاصة به، حتى لو كان يشعر بالملل، حتى يتمكن من استكشاف نفسه وتطوير إبداعه وفضوله. ونميل إلى الإفراط في الاستثمار في الطفل، لإبقائه مشغولا طوال الوقت، لنشرح له باستمرار ما يحدث حوله. وننسى أحيانا أنه قادر تماما على خوض تجاربه الخاصة، ونتعلم كيف نتعامل مع الوحدة وغيابنا.