لو لم يتفوه قيس سعيّد بكل ذلك العفن العنصري بحق المهاجرين الأفارقة، الذين يعيشون ويعملون في تونس، لأمكن القول إن الرجل ليس على طبيعته. لكانت شعبويته منقوصة تحتاج إعادة نظر. لما كان اسمه قيس سعيّد لو لم يُكمل تحويل تونس إلى معتقل كبير، بعدما بدأ رحلته الاستبدادية بالتدرج، فلم يجد رد فعل بحجم الفعل، فاطمأن إلى وجود بوادر تطبيع شعبي مع انقلابه على الدستور أولا، وانقلابه على الديمقراطية ثانيا، فحرره ذلك التطبيع من الحفاظ على شكليات ديمقراطية واحترام خطوط حمراء في إطار سعيه إلى بسط ديكتاتوريته حتى وصلت تونس إلى ما هي عليه اليوم، سجن كبير للمعارضين ممن يُعتقلون على الشبهة وعلى التغريدة والوشاية، على يد رجال أمن هم قلب انقلاب 25 يوليوز (2021)، ويُحكم عليهم من قضاة عينهم سعيّد، وهم الرئتان لذاك الانقلاب.
تروي تحقيقات صحافية جادة وموثوقة عن عدد الأفارقة من بلدان جنوبي الصحراء الذين طردوا من منازلهم ومن أعمالهم في تونس، منذ ألقى سعيّد خطابه التحريضي ضدهم، مساء الثلاثاء من الأسبوع الماضي، يوم اخترع أبو المؤامرات خطة غير موجودة إلا في أوهامه اسمها «تغيير التركيبة الديموغرافية» في تونس.
كيف يحصل ذلك التغيير؟ عبر بضعة آلاف من الأفارقة المهاجرين الذين وصلوا إلى تونس في طريقهم إلى أوروبا، وضاقت بهم السبل فاستقروا في هذا البلد. هؤلاء الذين سيغيرون التركيبة الديموغرافية لتونس، بحسب الأكذوبة السعيدية، لا يتجاوز عددهم الـ70 ألفا بالحد الأقصى، أي ما نسبته 0.5 في المائة من التونسيين الذين يزيد عددهم على الـ12 مليونا. وما الهدف النهائي من تغيير التركيبة الديموغرافية لتونس يا كاشف المؤامرات الجهنمية؟ إنه «اعتبار تونس دولة إفريقية فقط لا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية»، يجيب هذا الذي لم يخجل في خطاب المؤامرة العنصرية أن يقول إن هذا «المخطط الإجرامي تم إعداده منذ مطلع هذا القرن». يعني أن القائمين على المنظمات غير الحكومية التي تهتم بحقوق الإنسان وبشؤون المهاجرين السريين لا يعرفون النوم يوميا قبل اقتلاع تونس من محيطها العربي الإسلامي، على أساس أن قيس سعيّد، أبو الإسلام أيضا، فحص ديانات كل من هؤلاء الأفارقة فاكتشف أنهم غير مسلمين وأن الـ0.5 في المائة سيتمكنون من الـ99.5 في المائة، أي أن ذوي البشرة السوداء سيكونون القلة الذين سيغلبون الكثرة. صدق أو لا تصدق، هذا الخطاب القروسطي يُحكى في تونس، وفي العام 2023.
ما هو أخطر من عنصرية قيس سعيّد هو تطبيع طيف واسع من التونسيين مع تلك العنصرية. أما وأن في تونس مجتمع مدني متنور ومعاد للعنصرية، ويواجه بشجاعة نزعة الكراهية الآخذة في الاتساع بتشجيع رسمي يمثله رئيس الجمهورية شخصيا، فإنما هذا مصدر فخر عبر عنه ذلك الفيديو الجميل المتداول، خلال تظاهرة الأسبوع الماضي في تونس العاصمة، عندما مر الموكب المناهض للعنصرية في شارعٍ راح سكان أفارقة فيه يحيّونه من شرفاتهم، وهم لا يجرؤون على الانضمام إلى المتضامنين «البيض»، خشية التوقيف بتهمة أنهم سود البشرة، أو خوفا من التعرض لإساءات على الأقل من بعض يجاري عنصرية سياسيين ويزايد عليها ويتأثر بها.
التطبيع الشعبي لا يُقصد به نخبة متنورة، فهؤلاء موجودون في كل مكان، حتى في بلدان يحكمها من هو أسوأ من قيس سعيّد (إن وُجد). التطبيع الشعبي يُعبَّر عنه ببقاء الموقف المناهض للعنصرية محصورا بالنخب، وألا يتحول رأيا عاما عابرا للطبقات والمناطق والحساسيات السياسية.
التساهل الشعبي مع التحريض العنصري يُترجم بتجاهل ما يعرفه التونسيون عن أن العمالة الإفريقية بريئة من الأزمة الاقتصادية، وأنها تملأ فراغا في سوق العمل، بما أنه يصعب العثور على تونسيين يعملون في مهن معينة تبدأ بقطاع البناء، ولا تنتهي في جمع القمامة.
كثيرة هي دروس تجارب التسلط، أحدها أن المطبع مع الديكتاتورية والعنصرية اليوم سيقع ضحيتهما غدا.
أرنست خوري