شوف تشوف

شوف تشوف

ما قدنا فيل زادنا فيلة

هناك اليوم في المشهد السياسي مصطلحان يتم استعمالهما بتعسف، هما «الإرادة الشعبية» و«إهانة» الشعب.
والمثير للدهشة أن من يتحدث باسم إرادة الشعب وكرامته هي ثلاثة أحزاب الأول اسمه التقدم والاشتراكية لم يحصل على أكثر من 12 مقعدا بالانتخابات ومع ذلك لا يخجل عن الحديث عن الإرادة الشعبية.
والثاني اسمه حزب الاستقلال فقد خلال الانتخابات الأخيرة 28 مقعدا، ومع ذلك يصر أمينه العام على التحدث باسم الشعب الذي أسقطه من عمودية فاس وأخرجه منها ذليلا وسحب من برلمانييه الثقة.
والثالث هو العدالة والتنمية الذي حصل في الانتخابات على المرتبة الأولى بمليون و800 ألف صوت، من أصل 15,7 مليون مغربي مسجل في اللوائح الانتخابية والذين لم يتوجه منهم نحو صناديق الاقتراع سوى 6,7 مليون، مما يعني أن تسعة ملايين مغربي مسجلين في اللوائح لم يدلوا بأصواتهم.
أما إذا ما احتسبنا نسبة المواطنين البالغين سن التصويت والذين يبلغ عددهم حسب أرقام المندوبية السامية للتخطيط 23 مليون مغربي، فإننا سنحصل على رقم مفزع لنسبة المقاطعين والذين يصل عددهم إلى 16,7 مليون مغربي.
عن أي شعب إذن يتحدث بنكيران ويدعي أنه صوت له إذا كان 16,7 مليون مغربي في سن التصويت لم يصوت على أي أحد ؟
الحقيقة الواضحة اليوم هي أن المغاربة يخاصمون الأحزاب السياسية، أما الإرادة الشعبية التي يتحدث باسمها هؤلاء الأدعياء فليست واحدة بل هناك ثلاث إرادات شعبية على الأقل، الإرادة الشعبية الأولى تتكون من 22 مليون مغربي من حقهم التصويت، وهناك الإرادة الشعبية الرسمية المكونة من 15 مليون ناخب مسجل في اللوائح، ثم هناك الإرادة الشعبية الواقعية والتي تتكون من 6 ملايين مغربي صوتت خلال الانتخابات، أو 5 ملايين إن شئنا بعد إزالة مليون ورقة ملغاة.
وهكذا فالنسبة المئوية للتمثيلية الحقيقية لحزب العدالة والتنمية في هذه الإرادة الأولى، أي 22 مليون، هي عشرة بالمائة، ومن كتلة 15 مليونا التي صوتت تنزل إلى ستة بالمائة.
«واش هاد ستة فالمائة تعطيكم الحق للحديث عن المغاربة» ؟
طبعا لا، خصوصا إذا عرفنا أن الكتلة القارة لشعب بنكيران لا تتعدى 800.000، فيما الكتلة المتحركة تبلغ 700.000 صوت، و500.000 صوت إضافي التي حصل عليها بنكيران في الانتخابات الأخيرة فهي نتيجة التصويت العقابي، فالذين صوتوا له فعلوا ذلك نكاية في الأحزاب الأخرى، وخصوصا الأصالة والمعاصرة، ومسيرة الدار البيضاء وحدها أهدت العدالة والتنمية 16 مقعدا في الدار البيضاء، في الوقت الذي كانوا يراهنون على ثمانية مقاعد فقط.
طبعا نحن هنا لا نتحدث عن كتلة ليست لها أهلية التصويت (الجيش بكل أصنافه والأمن والشرطة والدرك والقضاة وحاملي السلاح وإدارة السجون والقوات المساعدة والوقاية المدنية) والتي تتكون من حوالي أربعة ملايين مغربي.
فكيف إذن يستقيم حديث بنكيران أو غيره عن الإرادة الشعبية دون أخذ رأي كل هذه الملايين من المغاربة ؟
إن الفائز الأكبر في انتخابات أكتوبر الماضي هو حزب المقاطعين، وهو الحزب الوحيد الذي يحق له أن يدعي تمثيل الإرادة الشعبية الحقيقية للمغاربة، وهي الإرادة التي تلخص حالة السأم والتذمر الذي يشعر به المغاربة إزاء الأحزاب والسياسيين الذين حولوا العمل السياسي إلى وظيفة مدرة للدخل والحقل السياسي إلى حلبة للصراع حول الحقائب والمناصب واستغلال النفوذ لتشغيل الأهل والأقارب والأصحاب.
ولذلك فتوظيف الإرادة والكرامة الشعبية في خطابات هذه الأحزاب الثلاثة يحكمها هاجس واحد هو تهديد الدولة بالشعب من أجل ابتزازها وجعلها ترضخ للسيناريوهات التي يهندسها لهم الواقفون خلف كل حزب وراء الستار.
اليوم صعد بنكيران من لهجته عندما قال إنه لا يعقل أن يقدم الملك المساعدات للدول الإفريقية فيما نهين الشعب المغربي، قبل أن يضيف أنهم لن يقبلوا بهذه الإهانة، مانحا خصوم وأعداء المغرب مادة دسمة للحديث عن مهاجمة رئيس الحكومة المعين لأسفار وإنجازات الملك في إفريقيا.
ولم يكتف بنكيران بهذا فقط بل أصر على أن «يحشي كرموصتو فالشريط»، وأن يتقاسم مع الملك نتائج نجاحاته الإفريقية تحت ذريعة أن الحكومة التي ترأسها كان لها الفضل في هذه النجاحات.
ولعل المثل الذي ينطبق على هذه الواقعة هو «ما قدو فيل زادوه فيلة»، فقد كنا بصدد «هبيل فاس» الذي يضرب بالحجر في كل اتجاه فإذا بنا اليوم أمام «هبيل فاس آخر»، يسير على خطى الأول مطبقا سياسة الأرض المحروقة مستغلا التساهل القانوني للدولة إزاء التصريحات الخطيرة التي أطلقها.
فما الذي حدث خلال أسبوع حتى يمر بنكيران إلى السرعة القصوى وينتقل من التهديد من مغبة إهانته إلى التهديد من مغبة إهانة الشعب المغربي، وبكونه مستعدا بعدما عاش وتجاوز عمره الستين أن يدفع الثمن ؟ عن أي ثمن يتحدث، وما الفرق بين ما يقوله وبين ما قاله شباط في فرانس 24 من كونه يتبرع بأعضائه على المغاربة سواء مات ميتة طبيعية أو غير طبيعية ؟
وما دخل المساعدات التي يقدمها الملك لدول إفريقية صديقة في مشاورات تشكيل الحكومة التي يقودها بنكيران والتي قال إنها مقبلة على أيام صعبة ؟
ويبقى أخطر ما قاله بنكيران خلال الدورة العادية للمجلس الوطني للاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، هو قوله «إنه ليس من الممكن وليس من المعقول أو المقبول أن نكون قد سيرنا الحكومة خمس سنوات بمرونة وليونة حتى قيل إننا فرطنا في صلاحياتنا الدستورية حين ابتعدنا في ممارستنا عن منطق الصراع والغلبة عبر التعاون والتوافق، وتتم عرقلة تشكيل الحكومة بهذه الطريقة».
لا يجب هنا أن نغطي الشمس بالغربال، فبنكيران يتحدث مباشرة مع المؤسسة الملكية مذكرا إياها بأنه تنازل عن صلاحياته لتفادي الاصطدام، وهنا نستحضر جملته الشهيرة «إلى بغيتو شي رئيس حكومة اللي يتصارع مع الملك شوفو ليكم شي حد من غيري»، أما اليوم، وبعد اتهام بنكيران للمؤسسة الملكية بالوقوف وراء عرقلة تشكيل الحكومة فالرجل أصبح يتحدث لغة التهديد، سيرا على نهج شباط الذي جاء مصحوبا به إلى بيت عزاء بوستة، مبديا استعداده لممارسة صلاحياته الدستورية كاملة هذه المرة ولو كلف ذلك الاصطدام مع المؤسسة الملكية.
وهذا ما يقصده بنكيران بقوله إنه وحزبه مستعدون لدفع الثمن من أجل الدفاع عن كرامة الشعب المغربي، وهو كلام سبق لشباط أن قاله الأسبوع الماضي عندما حرض المغاربة على الدفاع عن كرامتهم لأن الحياة لا تساوي شيئا، حسب قوله.
علينا لكي نفهم خلفيات هذا التحول والتصعيد الفجائي في لهجة بنكيران أن نعود إلى تصريح أعطاه قبل أيام قال فيه إنه ضد إجراء انتخابات مبكرة بحجة أنها مكلفة على جميع المستويات، وقال إنه لن يقبل بذلك.
قبل هذا التصريح كان بنكيران يهدد بل ويطالب بإجراء انتخابات سابقة لأوانها لحل «الاحتباس الحكومي»، مهددا الدولة بأنه سيحصل على أصوات أكثر من تلك التي حصل عليها خلال انتخابات أكتوبر.
فجأة أصبح بنكيران معارضا لما كان يدعو إليه، رغم أن الدستور لا يعطيه أي حق متعلق بإعلان الانتخابات السابقة لأوانها أو الاعتراض عليها، فهذا المجال محفوظ للملك وحده بوصفه المسؤول عن حسن سير المؤسسات الدستورية.
ويبدو أن سحر بنكيران انقلب عليه، فأصبحنا نلمس أن هناك استعدادا لدى جهات في الدولة لإجراء انتخابات مبكرة قد تكون في أكتوبر المقبل.
وحتى لو تشكلت حكومة في الأفق المنظور فلن تخرج عن كونها حكومة ترقيعية تشبه دربالة الهداوي تسير بنا إلى غاية شهر الانتخابات المبكرة المنتظرة.
بنكيران إذن تشمم رائحة انتخابات مبكرة في الأفق وفهم أن تنظيم هذه الانتخابات لم يعد فزاعة تخيف الدولة، ولذلك فهي لم تعد تصلح كأداة للتهديد والابتزاز.
ولعل ما يخيف بنكيران في الانتخابات المبكرة ليس هو تكلفتها المادية واللوجيستيكية كما قال، بل إن ما يخيفه ويطير النوم من عينيه هو أن يخسر رتبته الأولى.
وهنا يمكن أن نفهم الهجمة المنظمة على القائد الجديد لحزب التجمع الوطني للأحرار، عزيز أخنوش، ومحاولة تقديمه في صورة من ينهب أموال صندوق المقاصة ومن يقف حاجزا أمام توزيع بنكيران لأموال الدعم المباشر على الفقراء.
إن تواطؤ بنكيران مع شباط في الهجوم المنظم على أخنوش والمطالبة بإبعاده عن الحكومة بدعوى أنه رجل أعمال يجد تفسيره في كون الاثنين معا، بنكيران وشباط، يخشيان على موقعيهما من استعادة الأحرار لموقعه السابق كحزب يشتغل بمنطق الماكنة الانتخابية الجبارة، قبل أن «يتصل» به الفعفاع مزوار و«يضرب ليه تلافا» طيلة الفترة التي تولى فيها مسؤولية تسييره، فقتل جميع قطاعاته الموازية وجلب إليه أصحاب السوابق ومعطوبي السياسة فانتهى في الحضيض.
لذلك غير بنكيران موقفه من الانتخابات المبكرة، وبعدما كان يلوح بها كفزاعة أصبح يتهرب منها معلنا عدم سماحه بإجرائها، وكأن الأمر بيده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى