ماذا يقع في الأسفل؟
المشكلة اليوم تكمن في الفراغ، الخالي من الهواء، بين الطبقتين الوحيدتين في المغرب. الطبقة التي تشتري شقة على البحر، والطبقة التي تحلم بشم هواء البحر، دون ركوب «الطوبيس».
الطبقة المتوسطة، كما يسمونها، خُلقت لتُفترس. وقد راج قبل عشرين سنة من اليوم، ما مفاده أن الذين حاولوا خلق الطبقة المتوسطة بالمغرب، سمحوا لها بالظهور فقط لكي يستخلصوا منها الضرائب مستقبلا.
سبب كاف لمعرفة الغاية من السماح لطبقة ما لتتكون بالمغرب. الطبقة الوحيدة التي لم يمانع أحد بظهورها هي طبقة المثقفين. كانوا يعلمون منذ البداية أن المثقفين لن يؤذوا أحدا، بقدر ما يعكرون فقط صفو مزاج الذين في الأعلى.
ضاعت على المغرب، طيلة عقود، مشاريع كثيرة لو نجحت لسمحت على الأقل بانتعاش الفقراء وجعل حياتهم أفضل. حتى أن إحدى الصور القديمة لأحد التجمعات الخطابية التي حضرها أحد أبرز الداعمين للمستشار السابق أحمد رضا اكديرة، بنواحي الشرق، عكست مدى تفشي الفقر المدقع في المناطق المعزولة، والتي اعتمدها المنافسون السياسيون للأحزاب القديمة لكي يفوزوا بالانتخابات. صعدت أسماء انتخابية كثيرة ونزلت أخرى وبقيت تلك المناطق على حالها. لم تظهر بها طبقة متوسطة ولم يصلها أي من تلك الشعارات التي راجت خلال الحملات الانتخابية طيلة عقود، إلى أن ابتلاهم الله بالشوباني، الحبيب، لكي يكرّس السياسة العتيقة التي بدأها من يصفهم حزبه اليوم بالمفسدين و«الشفارة» ومصاصي دماء الفقراء.. صورة غاية في السوريالية.
حتى أن زميله في الحزب، لما كان وزيرا للتعليم العالي، يا حسرة، افتخر باستضافة وفد علمي من جامعة غربية اختار منطقة الراشيدية تحديدا لكي يجروا تجارب محاكاة لإحدى المركبات التي كان مخططا إرسالها إلى كوكب المريخ لتجمع بعض العينات من الصخور والأتربة. وكان هاجس هؤلاء العلماء أن تتعطل المركبة الصغيرة على ظهر المريخ، فاختاروا أن يطلقوها تسرح في أرض الله الواسعة في خلاء المنطقة الشرقية التي لم تصلها المشاريع ولا التأهيل، ويجربوا ما إن كانت المركبة فعلا قادرة على السير فوق سطح صخري مطابق تماما لسطح المريخ.. كل هذا ووزيرنا يفرق الابتسامات ويفتخر.
لو كان الأمر متعلقا بجهة ما من المغرب، لم تكن مأهولة بالسكان لتفهمنا سرور الوزير، ولكن الأمر كان يتعلق بمنطقة يعيش فيها مواطنون مغاربة لم يقم المسؤولون بأي شيء من أجلهم طيلة عقود.
الطبقة المتوسطة ازدهرت خلال سنوات السبعينات والثمانينات، ويقولون، والعهدة عليهم، إنها ازدهرت كثيرا خلال سنوات التسعينات، ومنها من نجح في التسلق من الطبقة المتوسطة ليصل إلى الطبقة العليا، وأعاده إدريس البصري إلى الإسفلت في إطار الحملة التطهيرية التي أعلنتها الدولة وقتها ضد الفساد، ويُتهم أعوان البصري اليوم بأنهم تركوا المفسدين الكبار وزجوا بالكثير من التجار ورجال الأعمال في السجون.
عندما كان إدريس البصري هذا وزيرا للداخلية، كان يتأبط ملفا أحمر اللون، لا يفارقه تقريبا، ويضع فيه كل الملفات «السوداء» التي تتضمن تجاوزات كبار المسؤولين. وبطبيعة الحال، فإن البصري كان يفتخر كثيرا بكثرة التقارير التي يتوفر عليها ضد سياسيين ورجال أعمال، ويخبرهم دائما، ليرعبهم، بأنه يستطيع معرفة ما تناولوه في غدائهم مع أسرهم.
عندما كان يستقل المصعد، كان يخبر موظفيه، أنه ذاهب للقاء المستشار بنسودة «ليُنزله» إلى الأرض. وكان يقصد أن يجعله على اطلاع بما يقع في الأسفل. وهذا ما يؤكد دائما أن المسؤولين كانوا ينظرون إلى العامة على أنهم في الأسفل.
ذهبت الطبقة المتوسطة، لم تبق حروفها، وها أنتم ترون كيف أن الحكومة اليوم تجلد الفقراء، وتحاول بيعهم ما تبقى من التعليم المضمّد، والصحة العالية بالله.