لم أفهم كيف تركتني أمي وأنا طفل أقرر البقاء في أمريكا بدل العودة معها إلى الصويرة (3)
أمريكا العشرينيات لا تتكرر. زخم عاشه جيل تلك الفترة في الولايات المتحدة الأمريكية وهم يشهدون ميلاد أقوى دولة في العالم. ناطحات السحاب تصافح سحب نيويورك، والقناطر تمتد لتصل المدينة بالضواحي متحدية إكراه الجغرافيا واختراق البحر لأراضي المدينة التي لم تكن تكف عن الاتساع. والأهم، أنك تصادف سحنات كثيرة في الطريق، وإذا أصخيت السمع، تسمع لغات كثيرة.
فيكتور المالح، كان طفلا نحيلا سنة 1926، مترددا في الحديث إلى أقرانه. بالكاد اكتشف شيئا اسمه الدراجة الهوائية التي يلهو بها أطفال المدينة خصوصا في الأحياء السكنية التي تضم المهاجرين.
مسألة اليهود لم تكن ذات حساسية كبيرة، خصوصا وأن العالم اجتاز للتو الحرب العالمية الأولى، والولايات المتحدة كانت بعيدة جدا عن تأثيرات الحرب. كان الأمريكيون يلهثون وراء الأبناك، والدولة تمنح تسهيلات لكل من كان يطمح في العيش وفق «المذهب» الأمريكي الجديد. كانت أمريكا جميلة قبل الخميس الأسود سنة 1929 عندما انهار الاقتصاد الأمريكي. كان فيكتور المالح وقتها طفلا معجبا بأمريكا، ورأى كيف أن اقتصادها هوى إلى القاع..
الحياة في «بينسونهارست»
قلنا إنه في سنة 1925 انتقل فيكتور المالح مع جده وجدته إلى عنوان ثان يقع في حي «بينسونهارست». ولكي نكون أكثر دقة فإن ذكرياته عن المغرب لم تكن قوية، وكل ما احتفظ به في ذاكرته من صور عن الصويرة، كانت جدته الصويرية تغذيها بحكايات عن الأرض الساحرة التي تركها خلفه وراء البحر. تحدث فيكتور المالح عن مرحلة انتقاله إلى هذا الحي أثناء بوحه لـ«Old New Yorker Stories» الأمريكية المتخصصة في نقل سير الناجحين من رجال الأعمال والفنانين ممن تتجاوز أعمارهم 95 سنة. وكان فيكتور المالح وقتها في الأشهر الأخيرة من حياته سنة 2014. يقول في متقطف من الحوار الذي أجري معه، والذي يتوفر بالصوت والنص: «انتقلنا إلى حي بينسونهارست عندما كان «البلوك» كله قيد البناء. كان الحي كله عبارة عن منازل ذات طراز عائلي. حيث كانت كل أربعة منازل مرتبطة في ما بينها بطريق ضيق يربطها ببعضها. عندما وصلتُ، كان عمري حوالي ست سنوات ونصف. وليس لدي أي ذكريات عن المغرب لفترة ما قبل مجيئي إلى أمريكا. لكني كنت أعرف وقتها أنه كان هناك أخ لي يكبرني قليلا وتوفي قبل أن أولد.
أسرتي كانت هي أمي وأختي هيلين وأخي جاك. بدأت الدراسة في شتنبر 1925 في نيويورك. أمي ولدت أخي ليونارد في أكتوبر وربما قضت فترة نقاهة لبعض الوقت. كنت وقتها في المدرسة لبضعة شهور. وكان هناك إشكال حول بقائي هنا أو العودة إلى المغرب. كنت أريد البقاء بشدة، لكن عمل والدي ومنزل العائلة كان في المغرب، وبالتالي كان يتوجب على أمي العودة. أنا بقيتُ. لم أفهم يوما كيف استطاعوا ترك طفل في السابعة من عمره يتخذ قرارا مشابها. ربما كان أحد تلك الأسباب أنه كان يتعين علي، على كل حال، أن أغادر موكادور يوما ما لأكمل دراستي. كنت أتحدث العربية والفرنسية وتعلمتُ الإنجليزية هنا في أمريكا في قسم للمهاجرين.
لقد غيرت تلك الفترة حياتي تماما. ولا زلت أذكر، لسبب ما، أسماء الأطفال الذين درسوا معي في قسم اللغة الإنجليزية، والذي كان يسمى اختصارا PS.48. أذكر ميلتون باتفينيك، مورتون بيالستوك، إيرفين كافكا، إيرفين لاندسبيرغ، مارتي بولانسكي. لم أقابل الأربعة لاحقا في حياتي نهائيا. التقيت فقط مارتي بعد سنوات طويلة جدا واشتغل في قسم المبيعات في إحدى شركاتي إلى أن توفي قبل عشر سنوات (أي أنه توفي سنة 2004). عرفتُ مارتي لأنه كان أعسر، ودرسنا معا في القسم الثالث من قسم اللغة الإنجليزية، وبقينا معا إلى المرحلة الثانوية، ثم سنتين في جامعة بروكلين، وبعدها لم أعلم عنه أي شيء إلى أن تزوج مرتين وأصبحت لديه أسرة ثم التقينا مجددا.
أذكر أيضا مُدرسة محبوبة ورائعة كان اسمها السيدة روجرز. كنت أحبها كثيرا وهذا أثّر إيجابا على دراستي. كانت لدينا مدرّسة أخرى اسمها السيدة برايس، ولم أكن أحبها في الحقيقة، وبالتالي لم أكن أبلي جيدا في الدروس. ونتيجة لهذا أذكر أن أحد أخوالي كان يصطحبني من المدرسة ويضربني لأني لم أكن أبلي جيدا.
في بروكلين، كانت هناك ألعاب موسمية كثيرة، وقد لعبتها جميعا (..) كنا نلعب في الجادة الـ62. لم تكن هناك سيارات. فقط خيول وعربات تجرها الخيول. وبما أنه لن يكن هناك أي ازدحام، فقد كان آمنا لعب الكرة بدون مشاكل.
كان يتم نقل الجليد في العربات. كان الأطفال يقفزون إلى ظهر العربات ويسرقون بعض قطع الجليد من الخلف. كان هناك أيضا فلاحون ومزارعون إيطاليون يطوفون بعرباتهم التي تجرها الخيول لبيع الخضروات، وكانوا يصيحون بإنجليزية تغلب عليها الإيطالية لإشهار سلعهم. كانت جدتي تشتري منهم الخضروات وتتواصل معهم بلغتها الإنجليزية المحببة والمميزة، رغم أنها محدودة للغاية».
شاب وُلد من جديد
باقتراب الأزمة العالمية لسنة 1929، كان الطفل فيكتور المالح بالكاد يستكشف الحياة حوله. كان إذن من المحظوظين الذين ولجوا إلى حياة بروكلين، ضواحي نيويورك، قبل حتى أن تغلب عليها السيارات. لكن مركز نيويورك كان يعج بناطحات السحاب التي سوف تصنع مجد الاقتصاد الأمريكي سواء قبل الأزمة، وحتى بعدها. في ثلاثينيات القرن الماضي سوف يولد جيل جديد من أثرياء نيويورك، وكان على فيكتور المالح أن يكون منهم لولا أنه كان صغير السن وقتها.
سوف تظهر لديه خلال طفولته التي كان يرفض قيد حياته أن ينعتها بالبئيسة، ويفضل أن يطلق عليها وصف «الغنية»، وقد كانت كذلك بالفعل، موهبة في كرة اليد. حتى أن أصدقاءه كانوا يتنبؤون له بمستقبل مع فريق لكرة اليد في بروكلين، وقد قضى فعلا سنوات وهو يلعب في الفريق، ولاحقا، تحدث مشاهير كرة اليد في أمريكا عن فيكتور المالح عندما كان يتدرب معهم. لقد كان إذن ينتمي إلى جيل أساطير كرة اليد الأمريكية، لكن حدثا مهما في حياته سوف يجعله يطلّق كرة اليد ويختار المسار الذي أوصله إلى «فيكتور المالح» الذي يعرفه الجميع.
ربما لو لم تكن في تاريخ أمريكا انتكاسة اسمها الخميس الأسود في سنة 1929 حيث سينهار الاقتصاد تماما وسوف تصاب الأبناك بالتضخم، لما كانت هناك انطلاقة جديدة في السنوات الأخرى لكي يشق فيكتور المالح لنفسه مساره الاستثنائي الذي أوصله من أحياء المهاجرين في بروكلين الفقيرة، حيث يتسابق الأطفال مع عربات الخضر وباعة الثلج بالتقسيط، قبل اختراع الثلاجات، إلى الاستقرار في الطوابق العليا لأغلى الشقق الفاخرة في قلب نيويورك.. المدينة التي قال مرة إنه جاءها بقميص خفيف، لفحه بردها فوق ظهر الباخرة التي أتت به مع أمه من «موكادور» إلى بلاد العم سام، قبل حتى أن يولد «سام».