تعتبر الجوطية الملجأ الآمن لفقراء العالم، حيث يمارس هؤلاء طقوس الغوص المقدس بين أكوام متراكمة من الملابس المستعملة والأفرشة المزركشة وقطع الأنتيك الصدئة. يقال إنه يوجد في البال ما لا يوجد في شانيل. غير أن ثقافة الجوطية أصبحت تواجه تهديدا حقيقيا، بعد انتشار حشرة البق في جميع أرجاء فرنسا، التي تعتبر المحرك الرئيسي لاقتصاد البال في المغرب.
لا حديث للعالم اليوم سوى عن «الجذام البقي» الذي أصاب الجسد الفرنسي المنهك بهموم الهجرة والعنصرية والأزمات الاقتصادية والسياسية. لم تتخلص فرنسا بعد من معضلة «الطوبات» السمان التي تتمختر على متن الميترو الباريسي، وتتراقص بمرح تحت أضواء برج إيفيل، حتى غزت حشرات البق منازل العباد لتفتك بممتلكاتهم، وتمتص دماءهم وتدمر صحتهم النفسية والعقلية. غير أن هذا الوضع البيئي الخطير لم يمنع النخبة الفرنسية المغيبة من تنظيم أسبوع باريس للموضة، هذا التقليد السنوي، الذي يستقطب المشاهير والمؤثرين من كل أنحاء العالم، الأمر الذي أثار الرعب في قلوب المواطنين الأمريكيين، مثلا، حيث ناشد هؤلاء، عبر مقاطع فيديو، السلطات الأمريكية باتخاذ إجراءات صحية مشددة في حق العارضات والمؤثرات العائدات من عاصمة البق.. «شنو خصك ا المجذام، الديفيلي أمولاي».
وكالعادة لم يفوت بعض الإعلاميين الفرنسيين الفرصة لبث سمومهم العنصرية تجاه المهاجرين، وتوجيه أصابع الاتهام إلى الجاليات الإفريقية، والمغاربية تحديدا، حيث ربط Pascal Praud ، وهو مقدم برامج على قناة سي إن نيوز، بين الغزو المهول لحشرة البق وانعدام النظافة في صفوف المهاجرين. ربما يجهل الأخ باسكال أن متلازمة الوسواس القهري بالنظافة تعد مكونا أساسيا من مكونات الثقافة المغربية، على وجه الخصوص، حيث تقدس المهاجرة المغربية طقوس «التخمال» الأسبوعي والشهري ونصف السنوي، رافعة بذلك الشعار الخالد «السطل وجافيل وسانيكروا لتبراد القلب»، في استهتار تام بأزمة ندرة المياه وتهديد حقيقي للفرشة المائية، إضافة إلى ثقافة الاستحمام العميق باستخدام «الكيس والصابون البلدي» ومختلف الخلطات التي تحتوي على الأعشاب العطرية الفواحة. دون أن نغفل «الشطافة» كإكسسوار أساسي في حمامات المهاجر المغربي، بينما يغتسل المهاجرون المسلمون خمس مرات في اليوم لتأدية الصلاة..
في المقابل يعتبر الفرنسيون أقل الشعوب اهتماما بالنظافة الشخصية، بل صنف أحد الإحصاءات، التي شملت مجموعة من الدول الأوروبية، الفرنسيين بصفتهم الشعب الوحيد الذي لا يقوم بغسل يديه بعد استعمال الحمام. تخيل، عزيزي القارئ، أن هؤلاء «المعطعطين» يشككون في مدى نظافة شعب يخصص أواني معدنية فخمة لاستقبال ضيوفه، بغرض استعمالها في غسل اليدين قبل كل وجبة، بل إن التاريخ يحتفظ لفرنسا بصفحات نتنة تبين كيف لم يتقبل الفرنسيون ثقافة الاستحمام إلا بعد سنوات من قيام الثورة الفرنسية. وكيف كانت رائحة البول المقرفة تفوح من أرجاء قصر فيرساي العظيم. شواهد تاريخية عديدة ترجح لجوء الفرنسيين لابتكار العطور والزيوت العطرية المركزة، في محاولة منهم لإخفاء رائحة «الخنز».
لقد بثت مقاطع الفيديو، التي تصور انتشار أعشاش من حشرات البق في المنازل والمواصلات العامة، الرعب في قلوبنا جميعا. لم يتخلص العالم بعد من التبعات الصحية والاقتصادية لأزمة كورونا، ولم نتعاف تماما من الأزمات النفسية التي أصابتنا خلال فترة الحجر الصحي، وما صاحبها من قلق وهواجس وخوف من المجهول. لقد دفعنا فاتورة عقلية باهظة الثمن قبل ثلاث سنوات. فاتورة أصابت أرواحنا بالإفلاس الشديد. فهل نحن قادرون على خوض تجربة وباء جديد؟
كما هو معلوم أصبحت السوشل ميديا أداة من أدوات التحكم الإيديولوجي في الشعوب. شاهدنا كيف تتحول المنصات الرقمية إلى أذرع إعلامية لنشر وترويج بروباغندا الحروب والانتخابات والأجندات الجندرية، مثلا، حيث أصبح من السهل جدا الوقوع في فخ السرديات الموجهة. ليست صناعة الخوف وليدة اليوم، بل إن الاقتيات على ترهيب الحشود المغيبة يعد ممارسة سياسية قديمة قدم الزمن. بل يجوز لنا القول إن صناعة الخوف تعد وقودا حيويا للتحكم. لكن هذا الأمر لا ينفي «الحقيقة البقية» وما تشكله من تهديد فعلي لناموسياتنا وزرابينا وصالوناتنا الخشبية الثمينة.
لقد خاض الإنسان المغربي حروبا مريرة في مواجهة مختلف أنواع الحشرات والقوارض، من قمل وصيبان وبق وبراغيث لطيفة، كانت تزين أجسادنا الصغيرة بأشكال هندسية متعددة، أثناء زيارتنا لبيت الجدة في العروبية. حارب المغاربة قديما هذه الجيوش الصغيرة باستخدام مادة الكَريزيل وليسانس والكافور والسودانية وغيرها من مواد كيميائية خطيرة.. فهل يملك المغربي المعاصر القدرة على استعمال أسلحة أسلافه للقضاء على البق؟ أم أن المغربي، الذي أصبح يرتاد صالونات الكيراتين والمساج والبيديكور، ويستهلك بكثرة الكريمات المرطبة والمقاومة للتجاعيد، سيجد صعوبة في استنشاق روائح الخلطات التقليدية لطرد البق الباريسي الفاخر.
يبدو أن قدرنا كأفارقة هو الوقوع الأبدي في فخ فرنسا وبقها ولغتها وامبرياليتها وجشعها الاقتصادي والعسكري. لا يحتاج المشهد العالمي اليوم، إضافة إلى ما يعانيه من حروب وزلازل وأعاصير وأوبئة وحشرات، سوى الطاعون الأسود وخروج هاجوج وماجوج وظهور المسيح الدجال وشروق الشمس من مغربها..