شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

لحبابي حيا وميتا..

 

 

يونس جنوحي

الذين اشتغلوا مع الدكتور محمد لحبابي، يعرفون جيدا حجم الخسارة التي يتركها رحيل رجل من هذا النوع.

صحيح أن المرض ألزمه الفراش منذ قرابة عشر سنوات، اعتزل فيها الناس وضجيج الحياة اليومية، إلا أن الأفكار التي تزاحمت في رأسه طيلة هذه المدة، لم تكن لتتركه يهدأ وسط غرفة مكتبه.

كان محمد لحبابي من أهم رفاق المهدي بن بركة في تجربة تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومن الكفاءات الوطنية التي اعتمد عليها الملك الراحل محمد الخامس في وضع الأسس الأولى لتكوين أطر الإدارة المغربية.

كما أنه كان من أكبر المتحمسين لحكومة عبد الله إبراهيم، وأحد المساهمين الأوائل في وضع المقترحات التي اشتغلت عليها الحكومة، من قبيل فصل الاقتصاد الوطني عن فرنسا وجلاء القوات الأجنبية من المغرب. اشتغل في هذه الحكومة، سنة 1959، مديرا لديوان عبد الرحيم بوعبيد. والعارفون بالكواليس كانوا يقولون دائما إن لحبابي هو «الدماغ» الذي كان يفكر به بوعبيد في مجال المالية والاقتصاد.

كان لحبابي مكلفا بجريدة «ليبيراسيون» أثناء أحداث 23 مارس 1965، و أشرف أيضا على تغطية الجريدة لحدث اختفاء المهدي بن بركة في باريس نهاية أكتوبر من السنة نفسها.

هذا كله كان يعني أن الرجل وقف صامدا في فوهة المدفع، لكن المثير أن أقداره قادته لكي يسكن إلى جوار الفرنسيين الثلاثة المشاركين في عملية اختطاف بن بركة في باريس، إذ بعد دخولهم إلى المغرب، سكنوا في فيلا لا تبعد سوى ثلاثين مترا عن منزل لحبابي، بشكل سري.

وحكى لي لحبابي شخصيا، في أواخر سنة 2012، ونحن نتمشى بجوار منزله، كيف كان يتجول في الزقاق وشد انتباهه وجود علب كثيرة لأدوية يتم التخلص منها خلف الفيلا، وكيف أنه صادف مرة زوجة أحد المتهمين الفرنسيين. ليكتشف، في الأخير، أن الذين تواطؤوا معهم للمشاركة في جريمة الاختطاف، هم أنفسهم من وفروا لهم الإقامة في ذلك الحي إلى أن تهدأ الأمور، خصوصا وأن السلطات الفرنسية وزعت، وقتها، منشورات تقدم وصفا دقيقا لملامحهم، وتعلن من خلالها أنهم في تعداد المبحوث عنهم للتحقيق معهم في الحادث.

كان لحبابي أحد الشباب الذين تولوا مهام تقديم المشاريع إلى الملك الراحل محمد الخامس، إلى جوار المهدي بن بركة، خصوصا مشاريع بناء الوحدات السكنية ومشاريع تعبيد الطرق. وزاوج بين مهامه في الوزارة، خلال التجربة القصيرة التي شارك فيها رفاق عبد الله إبراهيم في الحكومة قبل أن يتم إقصاء اليسار من تدبير الشأن العام، وبين التدريس في الجامعة.

في أواخر أيامه عكف لحبابي على التأليف، خصوصا باللغة الفرنسية، واضعا تجربته في صفحات مكثفة. لكن ما يحز في النفس أن الرجل، بكل ثقله ووزنه الفكري والسياسي، لم يكن يجد دعما لطبع كتبه، ويتحمل على نفقته الخاصة إخراجها في طبعة متواضعة جدا، لكنها تنقل أفكاره على الأقل إلى من يهمهم الأمر.

عاش لحبابي آخر سنوات حياته معزولا في بيته المُرتب على طراز الستينيات، وأصر على أن يسمع نشرات الأخبار من جهاز الراديو الضخم، ويستمتع بالموسيقى الكلاسيكية من بوق «الحاكي» وليس من سماعات الهاتف.

ظل لحبابي وفيا لأجواء الستينيات التي عاش فيها مع المهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد وآخرين. إلى درجة أنه عندما يعطيك موعدا لزيارته في المنزل، يتفقد وجهك جيدا، ولم يكن يتردد في ممازحة زائره قائلا: «اسمح لي، كان عليّ أن أتأكد أولا أنك الضيف الذي أنتظره، وليس أحدا من البوليس السري».

أجواء الاحتياط والترقب التي عاشها لحبابي خلال سنوات الرصاص، واختفاء زملائه واختطافهم، كلها جعلته يحتاط كثيرا من زواره.

في آخر أيامه، عندما اشتد عليه المرض، ظل مسكونا بقضية صديقه المهدي بن بركة، إلى درجة أنه كان يقرأ القرآن الكريم ويتصور أن طائرا ما سوف يأتي ليخبره بمكان دفن بن بركة.

رحم الله سي لحبابي، لا بد وأن مدخل مسكنه ومكتبته الغنية سوف يفقدان حيوية رجل عجوز، طالما تجول بين الرفوف بحيوية وأصرّ على أن يعيش شابا رغم أنه راكم أحداث قرن من الزمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى