شوف تشوف

الرأي

كأي جثة مخدَّرة..!!

مبكرا بالوجود تطلق شهقتك الأولى كأعذب موسيقى حالمة.. مبللا بالدهشة أخرجوك من رحم أمك إلى هذا العالم..
مقلوبا على رأسك كلاعب سيرك محترف تتلقفك أيدي الطبيب وأذرع الممرضات الحنونات.. تفتح أهذابك الصغيرة بخجل.. يصفعك الضوء لتعاود غلقهما مرغما.. ترنو بخجل إلى الوجوه الباسمة وزغاريد الأنس التي تبتهل حفاوة بك..
لكن هناك شيء ما يقلقك.. شيء ما يحيرك..
شيء ما ليس في موضعه ولا يناسب الموقف البتة.. آه..! أنت تبكي حقا..! وتصرخ من الألم..!
صغيرا كنت.. لكن أحلامك كانت كبيرة.. نابض قلبك بالعزيمة.. متوهجة عروقك بدماء الأمل.. وإرادة الحياة.. تكبر قليلا.. وتعتقد نفسك قويا.. صلبا..
وسرعان ما تثبت لك الأيام هشاشتك..
كملاكم ذي وزن الريشة يبارز آخر من العيار الثقيل.. فيمتلئ جسدك بالثقوب والندبات.. وتتوالى اللكمات.. والصدمات.. والطعنات..
تأخذ شهيقا عميقا.. وتكبر قليلا.. لتقابل الحبيب.. الإنسان الأول.. لتنعطف نحوه بكامل كيانك.. طوفان من المشاعر المذهلة يجتاحك.. فتحلق بلا أجنحة.. ترقص بلا ساق.. وتغني بلا حنجرة.. تحس بالانتماء.. وبالقوة والنشوة..لكن سرعان ما تثبت لك الأيام سذاجتك مجددا.. وتشتم بأنفك المتعب رائحة احتراقك..
تتدحرج نحو الخمسين سريعا.. وكأنك لم تكن شيئا مذكورا.. تتلاشى ذاتك.. وتفقد إيمانك بالحياة فجأة.. فتتمنى لو أنك لبثت في رحم أمك إلى يوم يبعثون.. يتلاعب بك موجه الدافئ كقطعة إسفنج.. هادئا.. وادعا.. مطمئنا.. وكأي جثة مخدرة.. شفطت أمنياتها بمكنسة كهربائية.. تعود زاحفا نحو قبرك الحنون الفاغر فاه.. معانقا التراب بحفاوة.. تطلق شهقتك الأخيرة.. وتغمض عينيك إلى الأبد..
مخطئ من ظن أن الحياة وطن واستقرار..
إنها غربة وإرهاق.. عندما يغادرنا شخص ما.. أيا كانت صلتنا الروحية به.. تنصب بداخل القلب والروح خيمة عزاء كبيرة.. تترمل فيها زوجات الفرح.. وتئن طفلاته اليتامى.. وتنزف الذاكرة كثيرا من الأحاديث واللحظات الثمينة.. يقول الشاعر السويدي هاري مارتينسون الحائز على جائزة «نوبل»:
«هم حين يموتون لا يعاقبوننا بالموت معهم.. هم يعاقبوننا بالحياة دونهم..
عندما توشكُ الذكريات على الرحيلِ.. تزورك بكثرة أولا كأنما ترغب أن تستهلكها حتى النهاية..
من الأفضل أن تستهلكها مثل وجبة مفضلة.. لدرجة أنك لن تشتهيها ثانية.. من هنا تنقص قيمتها.. وبالتالي تسقطُ ذات يومٍ فريسةً للنسيان..».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى