قوانين القوة في الحكم والسياسة (2/2)
من بيزنطة نعرف قصة نهاية الإمبراطور (ميشيل الثالث) الذي جاء إلى العرش في القرن التاسع للميلاد، بعد الإطاحة بأمه (ثيودورا) ووضعها رهن الإقامة الجبرية في دير، وقتل (ثيوكتيستوس) الرجل الذي أحبت، وكان من حبك المؤامرة العم (بارداس) المحنك المثقف، ولكن حدثت صدفة عجيبة. فحينما كان (ميشيل) ولياً للعهد في إسطبل للخيل، كاد أن يطأه حصان جموح، لولا شاب قوي القلب متين البنية، كان يعمل سائساً للخيل هو (باسيلوس)؛ فأعجب به الإمبراطور، وجعله رئيس حظائر الخيل، ثم توثقت الصلة بينهما؛ فدفعه إلى مدرسة لتثقيفه.
وكما حدث مع سليمان القانوني وإبراهيم حدث مع ميشيل الثالث وباسيلوس مع فارق النتيجة؛ فمع ارتقائه العرش جاء به مستشارا له، وكانت النتيجة مرة أخرى مروعة، تروي نفس القانون الاجتماعي؛ فقد فتك باسيلوس ببارداس، ثم كبر حجمه فقتل الإمبراطور؛ وأصبح سائس الخيل في النهاية إمبراطورا.
إن النزاع على المناصب مدمر، والقانون الأول في لعبة القوة، هو أن يعرف الإنسان موقعه، وأن يتجنب الكبر ويتعلم التواضع، بل ودفعا للحسد، أن يرتكب بعض الأخطاء البسيطة غير المؤثرة، ويجب أن يحافظ على المسافة مع الذي فوقه، وأن يوفر له الاحترام اللائق به بدون مذلة، وأن ينتبه إلى حساسيته عندما يدفع إلى الظل ويخسر احترامه لنفسه.
إن استعراض المواهب والظهور بمظهر (الفهمان) خطير، ولا ينتهي بشعور الأمان والإعجاب بل القلق والخوف، ومن المهم أن يمنح الأعلى الفرصة دوما للظهور على أنه الأفضل، وأن يقدم إليه النصح على نحو غير مباشر، وكأن الفكرة فكرته، ولا مانع أحيانا من التظاهر بالسذاجة والسطحية، بل وارتكاب بعض الأخطاء الصغيرة غير الضارة؛ لأن شعور الكمال خطير، وإن سلوكا من هذا النوع يخول صاحبه أن يصعد سلم القوة براحة ودون ضجة.
جاء في السيرة أن الرسول (ص) أرسل سرية أمَّر عليها عمرو بن العاص، ثم أرسل له ردفا بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، ثم قال له إذا وصلت إليه فأنت الأمير؛ فلما وصل أنكر (ابن العاص) ذلك، وقال إنما أنا الأصل وأنت التابع والرديف؛ فأجابه (أبو عبيدة): (سوف أطيعك ولو عصيتني)، والتحق بالجند.
إن حرصه على الجماعة كان أكبر من نيله منصب القيادة، وهكذا تبنى الأمم على يد أولئك الذين ينسون أنفسهم.
إنها حكمة كبيرة في التعامل مع نفوس البشر، وأعرف حكيما من الناس كان إذا استمع إلى أحدهم وأراد شرح فكرته قام باصطياد عبارة غير مقصودة من حديث المتكلم، ثم بدأ يدندن حولها، وكأن الفكرة هي من بنات أفكار الآخر، وبذلك يشرح فكرة عظيمة من جملة بسيطة تلفظ بها الآخر على غير قصد بل عارضا.
وفي العادة يفعل المفكرون هذا مع السياسيين، فيلتقطون عبارات تائهة غير مقصودة من خطبهم الفارغة، ثم يسقطون أفكارهم عليها ويشرحون أفكارهم من خلال أقوال السياسيين، الذين لا باع لهم في الفكر. أعرف هذا من مالك بن نبي المفكر الجزائري واستشهاده ببعض عبارات العجل الناصري ديكتاتور مصر وقائدها إلى هزيمة 1967 المشينة المهينة، بل وفتح الباب منذ عام 1952 م للديكتاتورية العسكرية التي ترزح تحتها مصر حتى اليوم وانتهى بالحكم بالإعدام على رئيس منتخب على يد باسيلوس المصري.
واليوم نعرف أن خطب السياسيين يشرف عليها لجنة من المفكرين والخبراء قبل إخراجها إلى الضوء.
إنها القاعدة الأولى في العلاقات الاجتماعية أن لا تدفع من فوقك إلى الظل، وكما قال ديكارت: عاش سعيدا من بقي في الظل.
مع هذا تبقى الجرعة الذهبية بين الاحترام والموافقة وبذل النصح أو الاعتراض في المنعطفات الخطيرة، والرجل المتكتم على آرائه عندما شعر بخطورة الموقف وأن فرعون ينوي القتل أفصح عن رأيه فاعترض وقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله) فوقاه الله مما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب. ونزلت سورة كاملة في هذه القصة أخذت اسم القصة بعنوان سورة غافر أو المؤمن.